دوستويفسكي رسام.. عما نتحدث؟
نادرا ما كان فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي يتحدث عن رسومه الخاصة. ولم يترك لنا أية إشارات واضحة مكتوبة عن مكانها. لم يكن الكاتب يحب البوح بأسرار أعماله الإبداعية. وقد صانت زوجته آنا غريغوريفنا “مخطوطاته اليدوية” التي كانت تحتوي معظمها على الرسوم، هذا الكنز النفيس، بعيدًا عن أيدي الغرباء. لكن وبما أن الكاتب حفظ “المخطوطات المكتوبة”، التي قام فيها بتسجيل التدوينات الأولية لكل أعماله المنشورة وغير المنشورة، فقد وصلت إلى أيدينا العديد من المخطوطات المرسومة بخط يده أثناء عملية تأليف أعماله الشهيرة: “الجريمة والعقاب”، “الأبله”، “الشياطين”، “المراهق”، “الإخوة كارامازوف”.
تختلف السمات المميزة للرسوم التي تركها لنا دوستويفسكي بشكل جذري في طابعها عن رسوم ألكسندر سرجيفيتش بوشكين. تنقسم هذه الاختلافات الجذرية (والتي لها أسبابها) إلى ثلاثة أقسام أساسية من حيث التصوير الأيقونغرافي:
- تمثل بورتريهات الرجال، والنساء، والأطفال حوالي 7% من إجمالي عدد الرسوم.
- تمثل التصميمات المعمارية (القوطية) حوالي 26%.
- تمثل تمارين رسم الخطوط اليدوية عند دوستويفسكي 61%.
بورتريهات دوستويفسكي
ليس أقلّ من أيّ رسّام بورتريهات آخر، أثارت مشكلة تجسيد الصفات الإنسانية في البورتريه دوستويفسكي. عبر صفحات مخطوطة رواية “الجريمة والعقاب”، يمكن ملاحظة الأعمال المرسومة لوجه راسكولنيكوف، ووالدته، وأخته سونيا، وليزافيتا. أحيانا، كان يرسم معاصريه ورفاقه في مجال الأدب: بلنسكي، ودوستويفسكي، وكرايفسكي، وتورغينيف. نجد كذلك بورتريهات لكتّابه المفضلين: بالزاك، وسيرفانتس، وزادونسكي. وبالنظر لمراحل حياة من ندعوهم بـ”الناس الأكابر”، قام الكاتب برسم بورتريهات في كراسته لبطرس الأول، نيكولاي الأول، نابليون الأول، نابليون بونابارت. ويرتبط هذا النوع من الرّسوم دوما بالأعمال التحضيرية لكل رواية جديدة، حيث يلعب أبطال تاريخيون من روسيا وأوروبا الأدوار الرئيسية للنماذج المصوَّرة.
القوطية عند دوستويفسكي
يحتل الأسلوب القوطي مساحة كبيرة في رسوم دوستويفسكي: الرسوم المعمارية التي تمثل تصميمات لأقواس، وأبراج، ونوافذ مقوسة لمبانٍ قوطية، يوجد ومعظمها في التدوينات الخطية لرواية “الشياطين”.
تبهرنا “الرسوم القوطية” لدوستويفسكي بجمالها الأخاذ، وعظمة ديكوراتها، وتنوعاتها الفانتازية. حيث يمكننا رؤية الجسور والنوافذ الملونة التي تميّز كولونيا، وميلانو، وباريس (نوتردام)، وغيرها من المدن القوطية التي رآها الكاتب وأعجب بها. في المقابل، سيكون من الخطأ أن نبحث عن تفسير لهذه الرسوم في حدود تفاصيلها المعمارية المباشرة. فكثيرا ما كان الكاتب يترك العنان في “إسكتشاته” لخياله، فيبلغ أماكن لا يمكن الوصول إليها. أغلب “مشاريع” دوستويفسكي المعمارية، لا يمكن أن تنَفّذ في الظروف الطبيعية للجاذبية الأرضية. فقط في حال انعدامها، وفي أحسن الأحوال، على القمر! يجب أن نشير لذلكعلى وجه الخصوص، لأن “الأخطاء” في المخططات ليست نتيجة قلة علمه بمبادئ وأسس الفن المعماري أو عجزه عن تصويرها. صُمّمت هذه المخطوطات بهذا الشكل عن عمد، الأمر جليّ.
حصل دوستويفسكي على دبلوم من المعهد العالي للهندسة، الذي يعتبر أفضل مؤسسة تعليمية للفنون المعمارية والحربية في روسيا. ضم طاقم التدريس فيه أكفأ البروفيسورات الروس والأجانب وأشرف الأمير ميخائيل على انتدابهم شخصيا حرصا على جودة التعليم. وفقا لشهادة أحد رفاق صف دوستويفسكي، كان الأخير يضجر من محاضرات الجيوديسيا، وعلم بناء الحصون، والرياضيات، وتنتعش روحه فقط أثناء محاضرات اللغة الروسية وتاريخ الفنون المعمارية التي جذبته بشكل خاص، بغض النظر عن مستقبله بالتخصص الهندسي. حينئذ كان الكاتب الشاب معجبا بجمال الخطوط القوطية -هذا الأسلوب المعماري قريب من ذوقه الاستطيقي ومقرون في وعيه بطراز الجمال الكامل والنهائي الذي يتجسد في قيم الخير والحق التي كان يبحث عنها باجتهاد في سنوات دراسته.
رأى دوستويفسكي “الشعر كما لو كان صرخة المعمورة كلها”، في مبنى الكاتدرائية القوطي، كما يقول أحد أبطال رواية “المراهق”. وعلى النقيض، فإن آداب اللغة -الفن الأدبي الذي كرّس له دوستويفسكي أثناء سنوات دراسته كل وقت فراغه- علمته التفكر والتفطن في فكرة “الفن المجرد”، المتجسد ماديا في “الجمال، الحق، الخير”. الفكرة التي لازمت كل رؤاه خلال سنوات نضوجه الابداعي.
فن الخطوط عند دوستويفسكي
عند تصفح “كراسة التدوينات” الخاصة بدوستويفسكي، نلاحظ أنها مكتظة برسوم خطية بيده. وعند مطالعة النصوص المكتوبة لعدد من أعماله، سوف نجد هذا الخط “الجميل” فقط في الكتابات التحضيرية لرواية “الجريمة والعقاب”، و”الأبله”، و”الشياطين”، التي يزدهر فيها “فن الخط” بشكل أخاذ ومتنوع.
في متحف أعمال الكاتب، لا توجد فقط خطوط متنوعة -المتجاورة في صفحة واحدة، وعلى حدود النص نفسه، والمكتوبة في الوقت نفسه- بل يمكن القول أنه قد استخدم خطا معينا للتعبير عن كل فكرة، مع كل كلمة مكتوبة. من المستحيل تقريبا تصنيف خط دوستويفسكي المتنوع والزاخر، إذ تتقاطع فيه أساليب الكتابة الخطية، التي كان يستخدمها وقت عمله، بشكل متدفق مع بعضها البعض. يحتل كل منها مكانة مميزة في عمودين متقاطعين بطريقة سريعة، تذكرنا بالمشهد الخارجي للأسلاك الشائكة، التي يمكن بالكاد قراءة خطوطها، والتي يتجلى فيها الكمال الفني لـ”الكاليجرافي”.
“فن الخط” عند دوستويفسكي ليس مجرد حروف بسيطة تخضع لقاعدة، بل هو عالم فني كامل يجمع العديد من الأطرزة الغنية التي تتصل اتصالا وطيدا بأعماله الإبداعية. تميّز الخطوط في عمل عن آخر، ليس من وحي خيالنا، بل يمكن ملاحظته في أعمال دون أخرى، كما سبق وذكرنا. في صفحات رواية “الأبله”، على سبيل المثال، يستطيع البطل “الخطاط” أو “الفنان” التعبير برسم الحروف عن شخصية الإنسان.
رسوم دوستويفسكي: فوضى أم نظام؟
لم يكن دوستويفسكي “يكتب” أو “يدوّن” فقط أثناء عملية إنتاجه الإبداعي، بل كما لو كان يعيش في الفضاء الزمني لعالم فني خاص “بكتابه المخطوط”، حيث تتوحّد الأفكار ومعاني الكلمات بشكل وثيق، وكذلك الأفكار والمعاني التي تعبّر عنها الصور المرئية. الكلمة والصورة، تجتمعان لمساعدة الكاتب في عملية تفطنه الفلسفي وتصويره الفني للعالم الذي يصنعه. بهذا تتجلى الحقيقة الحقة للتفرد الإبداعي عند دوستويفسكي. عند الشروع في رواية جديدة، يتوجه إلى نفسه مناشدا: “انظر في الدفاتر القديمة”، “انظر في الكتاب القديم” وهكذا. لا يوجد شيء عديم القيمة في كل مراحل صنع عمل فني عظيم يعتمد في أساسه على التدوينات الخطية؛ بل يجدر القول، التدوينات الإيديوغرافية للكاتب الروائي.
بقدر أهمية الرسم عند دوستويفسكي، ثبت لنا أنه يغيّر -بشكل جذري وجلي- من أسلوبه في تشكيل التدوينات التحضيرية أثناء فترات مسيرته الإبداعية المختلفة. وعلى سبيل المثال، لا تختلف التدوينات الخطية لرواية “الجريمة والعقاب” فقط في محتواها، عن رواية “الأبله”، أو “الشياطين”، أو باقي الأعمال، بل في شكلها الخارجي. وكذلك الأمر مع تدوينات “المراهق” أو “الإخوة كارامازوف”. يحمل التدوين الإبداعي لكل عمل من أعمال الكاتب وجها مميزا وخاصا عن “طبيعة” نضال الكاتب أثناء بحثه عن أسلوب فني. ويزوّدنا تطوّر الرسوم بمعلومات عن التحولات المهمة التي عرفتها تفانين وأسلوب أعماله الروائية، حيث تحمل معها سنوات نضوجه الإبداعي.
البورتريهات:
الاسكتشات القوطية:
فن الخطوط:
- رسوم فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي. مجلة “فوسكريسينيه” 1997، قسطنطين بارشت، المصدر المترجم عنه من الروسية: هنــــــــا
- عن إصدار ميونخ، مكتبة إلكترونية غير ربحية، 2007: هنــــــــا
اضف تعليق