بعد ملاحقة وبحث، استشهد أحمد نصر جرار، منفذ عملية حفات جلعاد، بعد مواجهة مسلحة مع جنود الاحتلال الإسرائيلي. وفيما يلي نص للشاعر والأديب الفلسطيني خالد جمعة لروح الشهيد.
تعالوا نتخيل أن الواقع انعكس تماما، مثل أن تمرّ وردتان على حقل أطفال، وتمد وردة يدها لتقطف طفلةً متفتحة حديثا، فتقول لها الوردة الأخرى: علينا أن نحافظ على الأطفال ولا نقطفهم، ألم تقرأي اليافطة في أول الحقل؟
هل كنت عكس الواقع يا أحمد؟ أم كان الواقع عكسك؟ هل كنتَ الوردةَ أم الطفلة في الحكاية؟ وماذا ستقول معلمة الفصل للأولاد في الحصة الأولى، فيما دمك ما زال طريا ومستنفرا كغزال ملاحَق؟ هل ستجد الكلمات التي تقنع فيها أطفالا -أو ورودا حسب الحكاية- بأن الموت على هذه الطريقة إنما هو حريّةٌ أخرى؟ وهل كنت تعرف قصة العصفور لغسان كنفاني كي تنفذها بالحرف؟ دعني أذكرك بها، فأنا متأكد أنك مازلت تسمعُ وتبصر، وتشم وتلمس وتتذوق كل قطرةٍ في هذا الحقل الكبير الذي يسمى فلسطين:
ملخص قصة العصفور لغسان كنفاني، أن شخصا اشترى عصفورا لأخيه الصغير. وراح العصفور يتخبط في جدران القفص. tقال الأخ الأكبر لأخيه: إنها مسألة وقت ويتعود العصفور على القفص ويستكين، لكن العصفور استمر في التخبط. وهنا يحضر له الأخ قفصا أكبر كي يشعر بالراحة، لكنه يستمر في التخبط. وحين يهدأ العصفور أخيرا ويستقر في قاع القفص، يشعر الصغير بالسعادة ويجري إلى أخيه الأكبر ويقول: لقد تعود العصفور على القفص وهدأ أخيرا، لكن أخاه حين ينظر إلى العصفور يعرف بخبرته أن العصفور لم يتعود بل انهار بعد كل تلك المحاولات التي راح يضرب فيها جدران القفص بجناحيه. فيعلق بجملة واحدة: إنه يحتضر..
هناك عصافير لا تحتمل القفص. ليست كل العصافير قادرة على التكيف مع سجنها وسجانها. هناك من العصافير من يفضل الموت وهو يحاول الخلاص من سجنه، على أن يبقى فيه حتى لو كانت جدرانه من الذهب. لذلك كانت قصة كنفاني نبوءته بك قبل أكثر من خمسين عاما.
أنت لا تحتاج رثاءنا، أعرف ذلك، إنما نريد أن نصنع منك قصةً لنرويها لأطفالنا. لن نقول فيها إن أباك كان السبب فيما فعلت، لأن هذا قد يُعدُّ انتقاما شخصيا. وسوف ينقصُ من دورك في الحكاية، لكننا سنقول إن صورتك التي نُقلت عن أحد آلهة الأولمب الجميلة في حكايات اليونان القديمة، تجعل ذهابك مؤلما أكثر. فالشهداء جميلون من حيث المبدأ، وحين يكونون جميلين قبل أن يستشهدوا، يصبح الوجع مضاعفا. وبالمناسبة، لم أقصد وسامة وجهك حين تحدثت عن الجمال.
ستكبر كما تكبر الحكاية. وستكون هناك في الصفحات الأولى لكتاب الوطن. الوطن الذي تنهد طويلا وقال إن هذا الصباح حزين وبكاك، بكاك بتلقائية أم تبكي طفلها. وأخذ يشم يديك ورأسك وموضع الرصاصات في جسدك، أيضا كأي أم تشم طفلها الشهيد. فالأوطان لا تنسى أبناءها كما تعرف على وجه الدقة.
ستكبر كأنك لم تمت! ستنمو لحيتك وتضطر أن تشذبها، وسيطول شعرك وتضطر أن تذهب إلى الحلاق كل شهر، وأظافرك أيضا. وستشعر بالجوع وتفرح وتحزن وتفعل كل ما يفعله الأحياء. فمع قدرة الموت الهائلة على منع الفانين من الحركة والإحساس، إلا أنه يتوقف أحيانا. ويعجز عن أن يتعامل مع روح مثل هذه. روح ذهبت بعيدا وما زالت تقاتل. إنهم خائفون يا أحمد، لأن الشعب الذي أنجبك يمكنه أن ينجب أمثالك، وهذا يخيفهم أكثر. ويذكرهم -ويذكّرنا كذلك- أن هناك احتلالا يقبع على مسافة خمسة سنتيمترات من أنوفنا، ويجلس بين نقاطنا وحروفنا. وهذا هو ما يعنيه الأمر في نهاية الأمر.
قم الآن، والبس قميصك وحذاءك الجديدين، مع رشة خفيفة من عطرك الذي تحب. واحتفظ بابتسامتك الساحرة فهي كانت وما زالت أجمل ما فيك، فلا يجوز أن تقابل كل الشهداء الذين سبقوك بغير تلك الهيئة. الهيئة التي ربما ستدخلك الفردوس الأعلى، دون أن تمر على الحساب.
https://soundcloud.com/user-536424150/gpq898g3dzqp
اضف تعليق