اليوم، 30 ديسمبر، تحل اليوم الذكرى الأولى بعد المائة لحادثة اغتيال أقوى وأدهى راهب في تاريخ البشرية: “جريغوري راسبوتين”، الذي خطط لقتله رجال البلاط القيصري في روسيا، بعد أن سئموا من سيطرته على مقاليد الحكم في الخفاء ومن نزواته الفاضحة على الملأ. كانت نهايته المأساوية ونبوءاته التي تحققت وقدراته الخارقة من أسباب شهرته الواسعة.
قد يبدو الإسم مألوفا، فهو عنوان أغنية شهيرة لـ”فرقة Bony M” وهو أيضا عنوان مسرحية كتبها وأخرجها يوسف وهبي وشاركته بطولتها أمينة رزق؛ كما تناولت سيرته الكثير من الأطروحات والدراسات والكتب في محاولة لتفسير شخصية هذا الرجل الغامض الذي كان ومازال موضوع تساؤل وتعجب قراء سيرته، فالكثير من حياته لم يكشف بعد.
أغنية راسبوتين الشهيرة
نشأته :
ولد “جريغوري راسبوتين” في عام 1869، في غرب سيبيريا لعائلة بسيطة من القرويين. تلقى قدرا ضئيلا من التعليم لم يكفه ليحسن القراءة والكتابة. قال البعض في قريته، أنه يمتلك قوى خارقة للطبيعة، في حين يذكر آخرون مواقف له تعكس اتصافه بالقسوة والوحشية اللاإنسانية. عن معنى اسمه، يُعتقد أنّ “راسبوتين” يعني “الفاجر” باللغة الروسية، فيما يقول بعض المؤرخين أن “راسبوتين” يعني “مكان التقاء نهرين”؛ وهي عبارة تصف بالفعل منطقة تقع بالقرب من المكان الذي ولد فيه.
دخل راسبوتين دير “فيركوتور” في روسيا، وكان في نيته أن يصبح راهبا، لكنه ترك الدير بعد وقت قصير، وتزوج وهو في سن التاسعة عشر، ليرزق بثلاثة أطفال (توفي اثنان منهم بعد الولادة بقليل). ترك راسبوتين عائلته في أوائل العشرينات من عمره، سعيا وراء حلمه بأن يصبح راهبا. فسافر إلى اليونان ودول في الشرق الأوسط وإلى الأراضي المقدسة بغرض الحج والتجول والتعليم الديني.
العصر الذهبي (صديق العائلة المالكة)
في عام 1903، أنهى راسبوتين رحلته ليصل إلى سانت بطرسبرغ -عاصمة روسيا القيصرية آنذاك ومقر الحكم، حيث صنع سمعة كمعالج روحاني. وبعدها بعامين، قُدّم إلى القيصر الروسي نيكولاس الثاني وزوجته ألكسندرا، اللذان كانا يبحثان عن علاج لابنهما ألكسيس ولي العهد المصاب بالهيموفيليا؛ فإذا تعرض لأية إصابة أو جرح بسيط يحدث نزيف مستمر لا يمكن إيقافه، وهو ما قد يودي به إلى حتفه. سرعان ما كسب راسبوتين ثقة العائلة الحاكمة بعلاج الأمير وإيقاف نزيفه أكثر من مرة. وكان لهذا العمل بالغ الأثر على ألكسندرا زوجة الإمبراطور، حيث منحته ثقتها.
ما بين عامي 1906 و1914، استخدم العديد من السياسيين والصحفيين علاقة راسبوتين بالعائلة المالكة لتقويض مصداقيتها ودفعها للإصلاح الشامل؛ وذلك بالادعاء أنه مستشار القيصر. وقد ظهرت تقارير عن سلوكه الفاضح في الصحافة، مما زاد من ازدراء المسؤولين في الدولة له. وقد بدأت حكايات الاستغلال الجنسي عن راسبوتين تنتشر في وقت مبكر من علاقته بالعائلة الملكية، حيث كان سلوكه غريب الأطوار -مثل شربه بشراهة وزيارة بيوت الدعارة- يتعارض بشدة مع قدسية منصبه الرهبني.
يرجّح بعض المؤرخين أن راسبوتين قد يكون عضوا أو أنه على الأقل تأثّر بطائفة “خليستي” الدينية المتطرفة، التي كانت ترى أن الشخص وإن كان مليئا بالمعاصي والخطايا، يمكن أن ينال التوبة ويسعد الله حقا. ترتكز طقوس هذه الطائفة على الرقص وشرب الخمور والقيام بممارسات جنسية جماعية، حتى يتأكد الانغماس الكلي في المعاصي الجسدية ليتطهر المرء منها فيما بعد عن طريق الامتناع عن الاتيان بها مرة أخرى. ويقال أنّ راسبوتين قام بنشر هذه الأفكار بين أروقة البلاط وبين النبلاء وزوجاتهم.
ومع دخول روسيا الحرب العالمية الأولى، توقع راسبوتين أن كارثة ستحلّ بالبلاد لا محالة. تولى نيكولاس الثاني قيادة الجيش الروسي في عام 1915، وذهب للحرب؛ وتولت ألكسندرا شؤون السياسة الداخلية. وكانت تدافع عن راسبوتين بشراسة، فاستبعدت كل الوزراء الذين قالوا أنهم يشكون في أمر “راهبها المجنون”؛ رغم محاولات مسؤولين حكوميين تحذيرها من تأثيره السلبي، مما يخلق انطباعا بأن العلاقة بينهما ليست كما تبدو تماما.
السقوط
كان سلوك راسبوتين ونفوذه رمزا لكل شيء فاسد في السياسة والمجتمع الروسي في ذلك الوقت. وقد تعددت محاولات قتله، حتى نجحت. ففي يونيو من عام 1914، طعنت متسولة الراهب في معدته عندما كان يزور أقاربه في سيبيريا، مدعية أنه كان يغري الأبرياء وقالت وهي تصرخ أنها قد قتلت الشيطان. وقد تعافي راسبوتين من الإصابة، رغم أنه قد فقد الكثير من الدم وشارف على الموت.
وبعد ذلك بعامين، في ليلة من أواخر ديسمبر عام 1916، خطط مجموعة من النبلاء بقيادة الدوق ديميتري -ابن عم القيصر، والأمير يوسوبوف -زوج الأميرة إيرينا ابنة أخ القيصر، والسياسي اليميني “فلاديمير بريشيكفيتش” لقتل راسبوتين. فقد دعاه الأمير”يوسوبوف” لتناول العشاء في قبو منزله بحجة أنّ الأميرة إيرينا تريد التحدث معه. وبعد وجبة ثقيلة دسمة من المفترض أن تكون مليئة بسم السيانيد، لم تظهر على الضيف في نهاية الليل أية أعراض تسمم بل أصبح في حالة سكر شديد، مما أثار رعب الحاضرين؛ فأخذ الرجال يطلقون النار عليه ثم غطوه بسجادة وألقوه في نهر نيفكا. وتم اكتشاف جثته طافية بعد ثلاثة أيام، لتُظهر تقارير التشريح أن جسمه لا يحتوي على أية سموم وأنه قد مات بسبب رصاصة في الرأس.
قبل وفاته بفترة وجيزة، كتب راسبوتين إلى نيكولاس الثاني يتنبأ بأنه إذا قتله أحد النبلاء، فإن الأسرة الملكية بأكملها سوف يقتلها الشعب الروسي، أما إذا قتله أحد أفراد الشعب الروسي، فإن حكمه سيستمر بضعة سنوات أخرى. وبالفعل، تحقّقت النبوءة بعد 15 شهرا، حيث قتل الثوار البلاشفة القيصر وزوجته وجميع أبنائهم. وقد رجّح العديد من المؤرخين والباحثين في الشأن الروسي أن حضور راسبوتين في هذه الحقبة، قد لعب دورا هاما في ازدراء الأسرة الحاكمة وكل ما يمثلها؛ مما مهد وبشدة لقيام الثورة البلشفية التي أنهت حكم عائلة رومانوف. ويظهر لنا في النهاية من حكاية راسبوتين أن الأساطير يمكن أن تدب فيها الحياة، وتنمو بمرور الزمن لتصبح أكثر أهمية من الحقيقة.
المصادر
اضف تعليق