عند الولادة، نلتمس حياة جديدة بصرخة أولى معبرين عن وجودنا. والصرخة أوّل إجراء وتدريب على التواصل، حيث نحاول استخدام العينين والحركة. وبعد مدة، نستخدم البكاء والضحك والابتسامة للتعبير عن حاجتنا للأكل والشرب. ثم تتحوّل الحركات إلى كلام، وما أجمله من كلام ونطق وتكوين جمل في الأشهر والسنوات الأولى لنشأتنا. التواصل هام منذ الولادة. فهو نشاط إنساني -باختلاف المكان والزمان واللغة- يعبّر عن المعاني والمشاعر والأحاسيس والأفكار والرغبات والاحتياجات.
أهمية التواصل في الحياة المهنية
في الجانب المهني، تشير بعض الإحصائيات أنّ 80% من نجاحك في عملك يعتمد على التواصل الفعال ومدى إتقان المهارات الاجتماعية. يجب أن يتعرّف الآخرون على منتجاتك أو خدماتك قبل اتخاذ قرار الشراء، لذا تظهر أهمية الرسائل الاعلانية والإشهارية وأيضا ضرورة تكوين فريق عمل قادر على التواصل بفاعلية. الأرقام تؤكد أن المديرين التنفيذيين في أمريكا يقضون 94% من وقتهم في أحد أشكال التواصل.
قام كل من جيس كوزيس وباري بوسنر بإجراء استطلاع مع 8500 مدير على مستوى الدولة، وسألا المستجوَبين عن الصفات التي أعجبتهم في رؤسائهم في العمل. وجدا 3 صفات أساسية:
- القدرة على الإلهام
- القدرة على تفهّم العلاقات الصحيحة مع الآخرين
- القدرة على مخاطبة المشاعر
وهذه صفات تتجسّد من خلال التواصل.
مفاتيح التواصل الناجح
نحن نعيش في عصر يسيطر عليه جانب الصناعات الخدمية أو الخدماتية بدلا من التصنيع، لذا يزداد طلب تعلم مهارات الاتصال خاصة وأنّها لا تدرَّس في أغلب المدارس والمعاهد والجامعات رغم أهميتها. فالتواصل هو الأداة التي لا غنى عنها للبائع، إنه من أساسيات علم التفاوض. وهو كذلك عنصر حيوي للقيادة. عالم التواصل مثير وأساسي في حياتنا، لهذا نحتاج الغوص فيه. كلّ شخص فينا قادر على اكتساب مهارة التواصل والإلقاء والخطابة والتأثير في الآخر. فلكلّ مهارة مفاتيح، ومفاتيح التواصل هي التالية.
الرغبة الجامحة
لدى الطفل عامة رغبة غريزية في اكتساب أدوات التواصل. ومن أسباب دخولي عالم التنمية الذاتية والتخصص في هذا المجال، سعيي للاحتراف والإبداع فيه. فقد عشت في صغري صعوبات تواصلية، إذ أنّ والدي رحمه الله صعب المراس ليس من السهل التواصل معه. وكانت أمي من النوع الذي لا يعترف بالتفويض. هكذا أصبح الأمر أشبه بتحدٍّ بالنسبة لي لأكون متواصلا بارعا ومحترفا في المجال الشخصي والمهني بعد هذا الضعط في الإطار الأسري. ولله الحمد، فقد مررت بمراحل لأبلغ ما أنا فيه اليوم من قدرة على التأثير. ومشوار التعلم مازال طويلا، طبعا.
رجل الدولة الإغريقي ديموستيني الذي اقترن إسمه بفن الخطابة لمدة ألفي عام، مثال على الرغبة الجامحة. فقد كان لا يتقن الإلقاء وكان صوته ضعيفا وأفكاره مشوشة. كلما تحدث، نزل بصيحات استهجان من المنصة. أقسم بأن لا يتكرر ذلك معه وتعلم الخطابة. كان يتدرب على الإلقاء لعدة ساعات بالصياح بشدة في الريح على الشواطئ. تدرّب على الكلام مع وجود حصى بفمه، وتدرّب أيضا مع وجود سيف فوق رأسه ليتغلب على الخوف. كما قام بدراسة أساليب الخطباء السابقين.
فإذا شعرت قارئي العزيز بخجل أو انعقد لسانك عند مخاطبة الآخر، لا تستسلم. فالسر في وجود الرغبة والالتزام بها.
التمكن من المهارة
المقصود هنا ليس المعرفة العميقة باللغة والنحو والمفردات بل بطريقة إيصال المعلومة بسلاسة. فالقاعدة العامة هي الوضوح والفهم، لأن هدف التواصل الأساسي هو نقل الأفكار. يقول الكاتب والدكتور نيدو كوبين وهو من أبرز المحاضرين في أمريكا في مجال إدارة الأعمال والنجاح والتواصل والقيادة في كتابه “كيف تصبح متواصلا جيدا”:
أدركت أنّ المهارات الثلاث الأساسية الحقيقية للتواصل هي الارتباط بالجمهور ونقل رسائل يمكن للناس فهمها والتحقق من استجابتهم. تلك المهارات الثلاث الأساسية جوهرية في عملي كمتواصل.
التدريب
المفتاح الثاني هو التدريب والممارسة والتطبيق وإستغلال كل فرصة للإلقاء والتواصل بشكل جيد في المجتمع أو في العمل. ومن بين القصص المحفزة في هذا الصدد مشهد من الفيلم الوثائقي لأسرع رجل في العالم، العداء الجماييكي Husain Bolt. يحضر أبوه لأول مرة التمارين وحين يرى ذلك المشهد المريع لابنه وهو تقيّأ من شدة الإجهاد و التعب، يقرر بعد ذلك عدم الحضور ثانية. الوصول إلى القمة في أي مجال يعود أساسا إلى التدريب.
لا تنس عزيزي القارئ أنّ ديومستيني الإغريقي صارع الطبيعة ليتدرب ويحسّن أداءه في الإلقاء! يجب أن تتدرب وتتدرب وتتدرب دون توقف، مهما بغلت من مستوى سواء كنت تتعامل مع أفراد أو مع مجموعة مكونة من آلاف.
الصبر
لا يمكن لأي شخص أن يصبح متواصلا لامعا ومحترفا من المحاولة الأولى. وحتى وإن امتلك ملَكة وموهبة الإلقاء، فهذا وحده لا يكفي. يجب صقل الموهبة. أذكر هنا مقولتي
المهارة وحدها لا تكفي. يجب أن تتحول إلى عادة مستمدّة من إحساس عميق ومشاعر حقيقية. يجب أن تكون مؤمنا بها لخلق التغيير الحقيقي بداخلك.
أرنست هيمنجواي لم يتحول من مراسل ناشئ في صحيفة تورنتو إلى أسطورة أدبية، بدون صبر أو بتدوين الكلمات ارتجالا، بل بعد جهد كبير. اهتم هيمنجواي بعملية تغيير الذات. وهكذا يتقدّم معظم الناس من مستوى إلى آخر، بإدخال تحسينات بسيطة على أدائهم يوميا.
في الختام، مهما كانت طريقة التفاعل التي تجسّدها أو تستخدمها، يجب أن يكون هدفك التواصل مع الناس. وهذا يعني أنّ تواصلك يجب أن يكون شخصيّا. وهذا ما سنكتشفه في جزء لاحق.
المصادر:
- كتاب “كيف تصبح متواصلا جيدا؟”، نيدو كوبين
[…] قد تحدثنا في المقال السابق عن مفاتيح التواصل الناجح وهي الرغبة والتمكن والتدريب والصبر. وقد ختمنا بقولنا […]