اسمه، محمد جبريل.
عادة لا أبجّل الأشخاص، وخاصة الكتاب منهم والناشطين في الوسط الثقافي العربي. أقرأ مايكتبون وأتفاعل معه وتتعالى صيحاتي جَرّاءَ الانبهار، أو السخط على ما قرأت. كلها انفعالات لحظية الطابع، تمرّ برحيل اللحظة وذهابها إلى الحيّز المجهول الذي صعدت منه. ينتهي الانفعال ويرحل الكاتب ويتبقّى ما كتب.
هكذا أتعامل مع الكتّاب، الكبار منهم أو الصغار. صحيح، تسكن بداخلي محبة لبعضهم، وأتحدث عنهم متى أتت الفرصة. أحكي عن أثرهم الذي تركوه في شخصي، الذي لا يزال في طور تكوينه المعرفي. أقول: “قلب الليل، هي أقرب ما قرأت إلى قلبي. وإن لم يكتب نجيب محفوظ غيرها، لظل تأثري به كما هو، لا ينقص منه شيء. ومع توالي الأيام ومتى أتت فرصة، أعيد نفس الكلام وأكرر نفسي متى ذكرت تلك الرواية.
لكنّ الأشياء لا تبقى على حالها..
كيف؟ تعرّفت عل جبريل منذ عام، داخل أسوار القاهرة التي أحبها وأحب ناسها، رغم كل شيء نالني منها. لم أكن قد سمعت عن جبريل قبلها إلا مرتين؛ مرة من صديق حدثني عن رواية له، والأخرى كانت ساعة مناشدة الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد -صاحب ثلاثية الاسكندرية- المسئولين أن ينقذوا جبريل من الموت والألم الذي هدّه، وأن يترأّفوا بكبر سنه، فهو من هو في العطاء الأدبي.
اتحدت الصور وتشابكت. رحلت اللحظة وحلّ مكانها صور متداخلة. رجل عجوز يمر عبر الطريق ببطء ويرتكز على عصا تساعده على المشي. يقف في المنتصف جَرَّاء الإرهاق، يتنهّد ويأخذ نفسه. ثمة عربات على طول الطريق تلعن وتسب الواقف في المنتصف. عرفت فيما بعد أنّ محمد جبريل صابر رغم كل شيء، رغم ألم الظهر الذي أصابه ورغم الترك ونسيان كلّ ما قدّم من أفكار وأدب.
زاد اهتمامي به. بحثت وبحثت عن كلّ ما كتب. تتبّعت دور النشر التي تنشر له. وعرفت أنّه يعاني ساعة النّشر. الدور تنشر لأصحاب المبيعات العالية، حتّى وإن شابها الضعف وكان المحتوى سخيفا. طرقت باب مكتبة مصر الواقعة بالفجالة، رمسيس. سألت، وصعدت الدّرج متّجها ناحية رفّ الكتب المعفر بالأتربة، وقرأت: “محمد جبريل”. أخذت أغلب الموضوع على الرّف. الكتب رخيصة جدا، لكنّ الموجود في الجيب لم يكن يسمح بشراء المزيد، على الأقلّ في تلك المرة. حاسبت، وخرجت تغمرني نشوة.. نشوة التّعرف على عالم جديد، لم أطرقه من قبل. بعدها كان المعرض الدولي للكتاب، بحثت عن دار الهلال. أخذت الموجود من كتب الأستاذ مع الكتب الأخرى التي اقتنيتها من المعرض ومن جناح الهلال وكُتِبَ لها أن تكون رفيقة طريق العودة، رغم ثقلها.
وكانت الاسكندرية التي أحببت..
لا أذكر على وجه التحديد، متى كانت آخر مرّة دخلت بها الاسكندرية، عروس البحر. كنت طفلا ساعة زرتها مع الوالد رحمه الله. أذكر أنني كنت هناك، والباقي صور بعيدة ومشوشة. كان جبريل هو المدخل إذن. تناولت الصف المرصوص: رباعية بحري، الحنين إلي بحري، الأسوار، الشاطئ الآخر، زمان الوصل، ونجم وحيد في الأفق، عناد الأمواج، النظر إلى أسفل وغيرها من الكتب. وأصبح من بعدها جبريل صديقي. أحببته وقنعت بصحبته. شممت رائحة البحر وانتشيت من ملامسة ماء الشاطئ، أبحرت وأخذني البحر بداخله، على الرّغم من عدم معرفتي بالعوم إلى الآن. دخلت الإسكندرية، وتعرّفت على حي بحري، بناسه ومهمشيه.
لا يكتب عن حياة المهمشين إلا مهمش. وجبريل لم يعرف إلا التهميش، طوال حياته الطويلة. ذكرني هذا بما كتبه الرافعي، في مقدمة كتاب المساكين : هذا كتاب المساكين، فمن لم يكُن مسكيناً لا يقرؤه لأنه لا يفهمه. ومن كان مسكيناً فحسبي به قارئاً والسلام. أحسب أن تلك كانت قاعدة جبريل، طوال حياته، يجالس المهمشين ويكتب عن الشخصيات الطارئة التي لا تترك أثرا، رغم ما تحمله من فلسفة حياتية. لا يعرف الطارئون التنظير، ولم يدرسوا أو يتعرّفوا على اتجاهات الفلسفة القديمة أو الحديثة، لكنهم يحملون تجارب حية تستحق التسجيل والكتابة والإفادة منها. تجارب مروا بها وأكلت من حياتهم حتى أهلكتهم.
يكتب جبريل عن المهمشين لأنهم وحدهم الصادقون.
” مختار زعبلة “، أحد شخصياته. مات مختار في البحر. جلس سنينا لا “يهبط” إليه إثر حادث وقع له فيه على ظهر إحدى السفن. ذهب إلى المشفى، ولمّا عرف أنه لن يعود إلى البحر، أصابته الكآبة. فهو كالسمك يموت لو خرج منه، كطائر النورس يحلّق طوال عمره على سطح البحر، يأكل ويشرب منه، حياته منه، فكيف يبتعد عنها؟
حنينه إلى البحر أبدا لم يخفت له صوت. ولما شعر بقرب الأجل، واشتم رائحة الموت، التي يكره، اشترى “بلانس” ليكون رفيقه وطريق عودته إلى البحر. بحث عن عمال وصيادين يركبون ويعملون على ” البلانس “. أراد أن يكونوا بداية العودة، ولما أتت ساعة الرحيل، صعد إلى “البلانس” وركب البحر، ومات. حلّق.. نال الخلود.
وروحه ظلت ترقص رقصة أبدية.
_____________
*محمد جبريل، روائي وقاص مصري ولد “الاسكندرية ” في 17 فبراير 1938م.
اضف تعليق