التصوف في الوجدان الشَّعْبِيِّ
“الأولياء أصحاب الدّرك، يخضعون لإمرة القطب الأعظم، سيدي المرسي، ونواهيه. يقضي بالصالح، فيمتثلون لقراره، وينفّذون ما قضى. عذر تأخّر النّصفة، في انشغال أصحاب الدّرك والقطب من فوقهم بآلاف الالتماسات من طالبي البرء والشّفاعة والمدد” (ص 235، أبو العباس).
في جولة سريعة إلى ضريح مولانا الحسين أو السيدة زينب، أو حي بحري بالإسكندرية، سندرك مدى الارتباط الشعبي والتصوف وإن لم يدركوا معانيه أو يتعرّفوا على طرقه ومقاماته وأحواله. الكلّ يسعى إلى الخلاص الروحي، الفكاك من الضيقات الدنيوية، والتخفيف من عبء الحياة، ولو بركعتين أمام الضّريح، أو تمرير الأيدي على الحديد اللامع وتقبيله، رغبة في البركة ونوال الرضا وتلبية الحاجة.
لم تكن “أنسية” تكتب ولا كانت تقرأ. هجرت قريتها، وتناولتها الأيدي، حتى استقرت ببحري. جاءت عليها الدنيا وأقحمتها بعوالم لم تستطع صدّها ولا مقاومتها. ولما ضاق بها الحال، وأَحَبَّتْ “سيّد الفرّان” وظهرت بداخلها مشاعر أبدا لم تختبرها: الأسرة، الزوج ، الأطفال، والالتفاف حول فرشة غداء واحدة وباب يغلق آخر الليل؛ لجأت إلى أبو العباس المرسي، قطب الاسكندرية وحامي حماها في الوجدان الشَّعْبِيِّ.
“تكرّرت زيارتها إلى المكان. تَطْوِي الرّقعة الصّغيرة في صورة حجاب. يكتب عرضحالجي المحكمة الشّرعية بشارع فرنسا، ماتمليه عليه. تدسّ الحجاب في ثنايا الكسوة الخضراء، أو تقذف بها خلال أسوار الضريح.” (ص 236، أبو العباس).
القاضي بالمحكمة ينظر في الأمور الدنيوية ويقضي بالحكم الظاهر، الولي هو قاضي المعضلات التي لا تحلّ. هو فرد تحقّق بالذّات العَلَوِيَّةُ أثناء حياته، وبعد الممات يتفرّغ لقضاء حاجات العباد. هو موكّل من الخالق، ينظر في الأحوال ويقضي بما فيه صلاح الحال. ألقت “أنسية” الرّسالة وراء الأخرى، قانعة بالإجابة والرد، موقنة أنّ المرسي لن يخذلها أبدا. بكت وهمست لصاحب الضّريح أن يخلّصها ويفتح لها دنيا غير الدّنيا، يتوب عليها ويهبها الخلاص ويريحها من النظرات والألسن المتتبّعة.
الوجدان الشَّعْبِيِّ المتمثّل بشخص “أنسية”، لم يتعامل مع حكايات الأولياء، على اعتبارها مجرّد قصّة أسطورية، نابعة من خيال خلاق وخصب، بل تعامل معها كواقع لا يخترقه الكذب أو التخيّل، حقيقة واضحة لا تقبل النقد. تلقّاها من حوله، ومارسها بصدق، وانتظر النتيجة بيقين عال.
” إذا لم يتحقق الأمر، فسترفع الأمر إلى رئيسة الديوان” (ص 236، أبو العباس).
مشاكل الفرد، لا تتوقّف. ومع كلّ مشكلة تصعد إلى السطح، تَتَعَزَّزُ سلطة الولي وقدرته داخل الوجدان الشَّعْبِيِّ. فنجد الولي المكلف بالأمراض، والولي القائم علي شئون الرّزق، والآخر الذي يذهب بالعقم ويأتي بالولد حتى لا يفنى النسل ويتّحد مع العدم.
التصوف والعالم المُوَازِي
” هل أظلّ العمر تحت قدمي الحاج زفت؟!” (ص 13، أبو العباس).
لم يكن “علي الراكشي” ينتمي إلى طريقة ولا كان يُمنّي النّفس بالترقي في مراتب التصوف، إلى أن اشتدّت مشاكله مع شيخ الصيادين “الحاج قنديل”. طرده الحاج، وأقبل هو على صيد السمان في الساحل الموارب. السمان له مواسم، والبيت له واجبات والمرأة والأولاد ينتظرون.
صعدت المشاكل من القاع إلى السطح، مَلَكَتْ عليه حياته، حتى فرّ إلى مسجد أبو العباس. يتابع الهمهمات، ويستمع إلى صوت حبّات المسبحة تمرّ بين يد قريبة، وثَمَّةَ أصوات تهمس وتنغمس في دعاء حار، معلنة عن أرواح وأجساد تتعذّب من تبعات المعيش.
لم تكن الطريقة إلّا خلاصا من كل شيء يضنيه في حياته. أراد الفرار من العالم حوله، البيت والأولاد وحلقة السمك وشتائم الحاج قنديل.
“روى للشيخ في ضيقه، عن قسوة الحاج قنديل” (ص 50، أبو العباس).
لما التقى بالشيخ “يوسف بدوي”، وجد ما كان يبحث عنه. وارتأى في شخصه الحياة التي ستصعد به إلى عوالم غير مرئية. يبدأ بالتوبة والاستغفار، حتى ينتهي به الأمر، مَالِكًا لكل شيء. يمشي على البحر دون أن يغرق، ويأتي بفواكه الشتاء في فصل الصيف، ويخرج رغيف العيش من العدم، لتتناوله المرأة والأولاد، و”يشخط” في الحاج قنديل، والأخير لا يستطيع الرد عليه خوفا من العذاب المقيم جراء التطاول على الولي “علي الراكشي”.
“ابتسم لرؤية الحاج قنديل وقدماه تتأرجحان على الصراط. وقال الحاج في تذلل: إن لم تعف عني، فالخلود في النار مصيري” (ص 145، أبو العباس).
هام الراكشي على وجهه. ترك البيت والأولاد، قنع بصحبة شيخه، وعند حد معين تركه هو الآخر. أيقن ساعتها أنه وصل إلى المبتغى. يتحدّث مع من لم يرَه الناس، ويضحك ويبكي. حتى الأكل، يخيّل إليه أنّه يأتيه من الملائكة المقربين.
ولما انتهره، أمين عزب:
” وآخرتها يا علي ” (ص 246 أبو العباس)
نفض عنه التراب وذهب ليشتري صنارة، ليعود إلى الحياة القديمة، حياة الصيد. وانطلق إلى الكورنيش ليصطاد، فوجد عسكري السواحل يخبره أن الصيد هنا يحتاج إلى رخصة صيد في الأماكن الممنوعة. لم يكن يحمل رخصة، حاول أن يباغت العسكري، ويصطاد، لكنه لم يستطع، فسقط في البحر ومات، والأولاد في انتظار الغداء.
التصوف بين الكشف والتبليغ
“من تظنّني يا جابر؟
وأنا أغالب الرّهبة: سيدي ياقوت العرش ” (ص 92، ياقوت العرش)
انقلبت حياته رأسا على عقب، منذ ظهور ياقوت العرش له، في رؤيا. أخبره أن يُنذر أهل الحي كلّه وأن يجد ضريح ” الأنفوشي” الحقيقي.
لا أحد يعرف عن الأنفوشي شيئًا. لا يعرفون له ضريحا ولم يكن له مولد ولا مريدون يأتون إليه، فكيف يعرف؟ كيف ينقّب ويبحث عن صاحب الضريح؟ وأي الأدوات تتيح له ذلك، فلم يكن من دراسي التَّنقيب عن الآثار؟ كلّ ما يعرفه خلال أعوامه الماضية كلها، كانت عبارة عن كتب السحر، فكيف يكشف ويُنَقِّبُ عن الواقع بغير أدواته؟ كل ما يعرف أنّ ياقوت العرش ظهر له، وأنه حتما سيقوده في الكشف عن الضريح وصاحبه.
لا يفرق جابر كثيرا عن صديقه الراكشي، هي ذات الأدوات: التعامل مع الواقع بغير أدواته.
خلال بحثه، تنقّل جابر من ضريح إلى ضريح. وفي كلّ مرّة، يلقي في روعه أن هذا المكان بالذّات هو مكان “الأنفوشي”، بداية من قلعة قايتباي، مرورا بمدرسة البوصيري، وصولا لضريح علي تمراز، في الجزء الأخير من الرّباعية. استعمل أدواتٍ غير الأدوات فابتعد عن المراد. لم يقتنع جابر، باختلاط الأشياء عليه، بل استمرّ، حتى تحوّل من حالة الكشف والتنقيب إلى مقام التبليغ، عن الأنفوشي إلى النّاس، تحوّلت الرؤيا والمنامات إلى حقائق وأصبحت إلزامية، وكلّ مبتعد عن ما يخبَر به سينوله العقاب.
” قال جابر برغوت: استروا أنفسكم أولا، أو يحل عليكم غضب سيدي الأنفوشي ” (ص 282، البوصيرى).
____________
على الهامش: يفرّق الروائي محمد جبريل بين الواقعية السحرية في الرواية، و ما يسمّيه هو بالواقعية الروحية. فالأولى تأتي من الخيال الخصب ولا تمارس على أرض الواقع، أمّا الواقعية الروحية، فهي ممارسة في الحيز الواقعي، حتى وإن تشبّهت بالسحرية. (راجع لقاء جبريل المذاع على قناة الدلتا، يوتيوب)
- محمد جبريل، روائي وقاص مصري ولد “بالإسكندرية” في 17 فبراير 1938
اضف تعليق