في الثاني الثانوي، كان في مدرستنا معلّم ينتمي إلى حركة الجهاد الإسلامي، كنت في السادسة عشرة، ولم يكن يدرّسنا، لكن حادثا أصاب مدرّس التربية القومية جعل هذا المعلم واسمه رياض أبو راس، يعطينا حصصا بديلا للمعلّم الذي أصيب في الحادث.
في أوّل حصصه، قال لنا:”دعكم من التّربية القومية التي تتعلق بثورة الثالث والعشرين من يوليو، والتي كنا نتعلّمها بحكم المنهاج المصري، وأخبرنا بأنه سيعلمنا التربية القومية على أصولها، وسألنا، هل يعرف أحد فيكم محمود درويش؟
الكتب أيامها كانت نادرة، وكنا نستمع إلى مارسيل خليفة حيث يتصادف أن نقرأ على شريط الكاسيت إذا لم يكن مزوّرا: كلمات محمود درويش، فمن هو محمود درويش هذا؟
قال لنا الأستاذ رياض: “سألقي عليكم قصيدة، وأعرف أنكم لن تفهموا منها شيئا.” فتحفزتُ كعادتي، لأفاجئه حين ينتهي من القصيدة بأني فهمت، وبدأ:
ليدين من حجر وزعتر، هذا النشيد، لأحمد المنسي بين فراشتين، مضت الغيوم وشردتني، إلى أن وصل إلى عبارة: وأرصفة بلا مستقبلين وياسمين، وبكى. وهنا بدا الفصل كله وكأنه عبارة عن تماثيل من الخشب بملامح من خشب، حتى أن الوقت صار من خشب.
كان أخي قد عاد من دراسته في الأردن حديثا، وأحضر معه بعض الكتب. فأخذت أبحث بين كتبه، وعثرت على ديوان أعراس، ووجدت داخله قصيدة أحمد الزعتر، أو أحمد العربي. ولم أنم ليلتها، ربما قرأتها عشرين مرة. وفي هذه اللحظة بالذات بدأت علاقتي مع شعر محمود درويش.
بدا لي محمود درويش هيكلا في الفراغ، إلها بعيدا لا يُطال. يكتب كلاما لا نفهمه، ولكنه يجعلنا نبكي. لماذا نبكي ونحن لا نفهم كلماته؟ لأنّه يبكي حين يكتب، قال لي الأستاذ رياض، الذي فصلته سلطات الاحتلال وقتها من التعليم لأنه يحب فلسطين ومحمود درويش. بحثت عن بيته في مدينة غزة وزرته أكثر من مرة. وكلّ مرّة كنت أخترع له سؤالا جديدا عن محمود درويش، وكأنه وكيل محمود درويش الشخصي، ولكنه كان يجيب بثقة العارف. وعلى ما يبدو لي بأنّه قد قرأ كلّ حرف عن ولـ “محمود” كما كان يطيب له أن يسمّيه، فكأنه بذلك يضع محمود درويش موضع أبناء الحارة المقرّبين.
كبرنا قليلا، وأصبحت أكتب بعض التّفاهات هنا وهناك. وقال لي أحدهم مرة: “جميلة كتاباتك، حتى أنها تشبه كتابات محمود درويش.”كنت في السابعة عشرة، وذهبت إلى البيت ومزّقت كلّ كتاباتي التي أعجب بها الرّجل. فأنا أحبّ محمود درويش، لكني لا أحب أن أكون نسخة عن محمود درويش.
ضبطت نفسي أكثر من مرة، حين يطلب إليّ الشباب أن أسمعهم شعرا مما أكتب، أنني كنت أقترح عليهم أن ألقي شيئا لمحمود درويش، مرة يطير الحمام، ومرة القصيدة التي سحرتني لسنوات لاحقة “مديح الظل العالي” وكنت أحفظها غيبا، ومرة “حوار شخصي في سمرقند”، ومرة “خطبة الهندي الأحمر”، إلى آخر مشهورات محمود درويش.
مصادفة، عثرتُ ذات يوم على بسطة في سوق فراس في غزة، على كتاب “يوميات الحزن العادي” ولم أكن حتى ذلك الوقت أعرف أنّ محمود درويش يكتب النثر. وقد غرقت في الكتاب إلى درجة أنّني حفظت مقاطع منه، لأكتشف لاحقا “ذاكرة للنسيان”. وما زلت إلى اليوم مصرّا على أنّ أجمل ما كتب درويش في حياته لم يكن شعرا، وإنما كُتُبه الثلاثة، “يوميات الحزن العادي”، و”ذاكرة للنسيان”، و”في حضرة الغياب”، والكتب الثلاثة نثرية بامتياز، لكن هذا موضوع آخر.
عام 1995، كنت أسير في شارع البحر في مدينة غزة. فإذا بشخص يخرج من بيت يقابل فندق آدم، وقفت، ارتبكت قليلا، ثم صافحته. وقلت له: “اسمي خالد جمعة.” فضحك وقال: “أهلا، سمعت بك، أنا اسمي محمود درويش…” يا إلهي، هل أنا في حلم أم في حقيقة! الأولى أنا أصافح محمود درويش، والثانية أنه سمع بي، والثالثة إنه يمزح معي، لا هذا أكثر من الحلم قليلا.
بعدها بأعوام يتصل تليفونيا بالشاعر أحمد دحبور ويسأله عني بعد أن قرأ كتابا لي، ويبلغه رسالة ليبلغني إياها. وبالطبع سأحتفظ بالرسالة لنفسي، ولكن هذا كان أجمل ما حدث لي في تلك الفترة من حياتي.
يموت محمود درويش. أعتصر نفسي لأني لم أدخل رام الله منذ عام 2000. أردت أن أسير في موكبه، لكني لم أتمكن، ولن أتمكن إلا بعد موته بخمسة أعوام، حين جئت إلى رام الله بعد ثلاثة عشر عاما من الغياب عنها. وأوّل ما فكّرت فيه، أن أذهب لزيارة قبره.
جلست ليلا أمام القبر لعشرين دقيقة دون حراك، ثم قمت بهدوء ووضعت رملا على الرخامة التي تعلو ضريحه، وأخذت أخطط بإصبعي: “قل للغياب نقصتني وأنا حضرت لأكملك.” والتقطت لها صورة، قبل أن يأتي الحارس ليحذّرني بأنه من الممنوع أن نضع رملا على رخامة درويش، لكن قبل أن يصلني أوقفته ريم تلحمي. وحكت له حكايتي، فتوقّف قليلا خصوصا حين شاهدني أزيح الرمل وأنظّفه بعناية بعد أن صوّرت العبارة. هذا الحارس صار صديقي ومازال صديقي إلى اليوم.
محمود درويش لم يكن شاعرا جميلا وحسب، بل قام بتشكيل وعينا الإبداعي. وحتى لو خرجنا من نمط جملته وتركيباته الغريبة والمغرية، فإنه كان وسيبقى الشاعر الأكثر تأثيرا فينا، حتى حين نقول: إننا تخلصنا من تأثير محمود درويش، فإننا من حيث لا ندري نقول: محمود درويش يرقد في عقلنا الباطن. وها نحن نسعى للتخلص منه، سواء نجحنا أو لم ننجح، فإنّه في النهاية هناك، ونحن نعلم ذلك جيدا.
اضف تعليق