كان من الطبيعي أن تقود حالة الاسترخاء التي يعيشها كلّ شيء في فلسطين، من الشارع وردود أفعاله، إلى الفصائل برخاوتها، إلى السلطة الفلسطينية بمأزقها التاريخي، كان من الطبيعي أن يقود كل ذلك إسرائيل إلى تصعيد إجراءاتها على كافة المستويات، إلى أن وصل الأمر إلى البوابات الإلكترونية في المسجد الأقصى.
هنا انتبه سكان القدس من الفلسطينيين، وأقول سكان القدس لا غيرهم، إلى خطورة ما يحدث، فجهّزوا أسلحتهم التي يمتلكونها، لحمهم، وأصواتهم، وصلاتهم على الإسفلت، وقرروا أن يكسروا عنجهية إسرائيل ويزيلوا البوابات، في شكل من أشكال النضال السلمي الذي لم تعرفه فلسطين منذ الانتفاضة الأولى. وسينجحون. سيحققون ما يريدون، لأن تلك الروح التي تخرج من كلماتهم، وتلك الثقة التي تبدو في ملامحهم الحزينة والمتعبة، تقول إنهم سينجحون فيما يريدون، ولكنهم سينجحون وحدهم. وسنبقى نحن من يتفرّج على نجاحهم ونقول: “إنه إنجاز لكل الفلسطينيين”، عفوا، إنه إنجاز أهل القدس الفلسطينيين، على الأقل حتى الآن، ومن سيقول غير ذلك، فإنه يكذب.
إسرائيل لا علاقة لها بالقدس. هذا ما يقوله شاهدهم الوحيد، كتابهم المقدس، التوراة، في سفر القضاة، الإصحاح التاسع عشر من فقرة 9 إلى الفقرة 12:
“ثم قام الرجل للذهاب هو و سريته و غلامه، فقال له حموه أبو الفتاة إن النهار قد مال إلى الغروب بيتوا الآن، هو ذا آخر النهار بت هنا وليطب قلبك وغدا تبكرون في طريقكم و تذهب إلى خيمتك…
فلم يرد الرجل أن يبيت، بل قام و ذهب، وجاء إلى مقابل يبوس وهي أورشليم ومعه حماران مشدودان وسريته معه…
وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جدا، قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها…
فقال له سيده: لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا”
لم تعثر إسرائيل على حجر واحد يثبت وجودها في القدس قبل عام 1948، ويقول إسرائيل فنلكشتاين، عالم الآثار الإسرائيلي المعروف عالميا:
عثرنا في الحفريات على مواد تسبق فترة الهيكل، ومواد تلي فترة الهيكل، ولو كان الهيكل موجودا لوجدناه بين الطبقتين، وهذا يعني أنّ الهيكل لم يوجد هنا، ولن يوجد إلى الأبد.
إنها القدس أيها الجندي، القدس التي لا تعرف أنت عنها شيئا عدا ما قرأته في الكتب. القدس التي تشعرك بالضّآلة أمام من مرّوا من نفس الشارع، وربما خطوا فوق نفس البلاطات التي تخطو أنت فوقها، كلُّ هذا العدد من الأنبياء والقادة العظماء والشعراء والكتاب والمؤرخين في مكان صغير كهذه المدينة، فهل تجد مكانك؟ أين يذهب ظنك بنفسك إذا وجدت كتابات تعود إلى آلاف الحضارات؟
هنا، في القدس، ذابَ الصوفيونَ في حضرةِ الرَّب، هنا تعلَّمَ النشءُ أن الحياة أكبر من أن تحدَّها فكرةٌ عابرة، وهنا تقدَّستْ كلُّ ديانات الأرضِ وخلعَت كلُّ الملوكِ تيجانَها تواضعاً أمامَ المدينةِ التي لم تشبهها مدينةٌ أخرى، مدينة تستحق أن تكونَ سرَّةُ العالمِ وحبلُها السرّي مربوطٌ بالله مباشرةً دونَ وساطاتٍ من أي نوع.
مطرٌ من التاريخِ يهطلُ على شعرك وقميصك حين تمر من هناك، مطرٌ من المجد والكينونة المتفرّدة، مطر من النبوّات والأحلام والتوحُّدِ في المطلق البعيد وفي ظلال الآلهة التي سكبها التاريخ في حقلٍ لا تُنبِتُ تربته غير عَظَمَةٍ من بنفسَجْ.
إنها القدس أيها الجندي، والجنود الذين ظلّوا هنا، هم فقط أولئك الذين ظلوا ليحرسوا هواءها من أنوف الغرباء، أما الباقون، فقد زالوا، لم يرحلوا، بل زالوا.
إنها القدس أيها الجندي، لن تنزل على ركبتيها أمام بوابة من حديد، لن تخشى رصاصةً من بندقيتك الملقّمة بالأساطير، فكثيرة هي الأساطير التي مرت في ساحاتها، وكثير هو الرصاص الذي حاول خدش حجارتها، وكثيرون هم الجنود الذين مروا كسوّاحٍ على طرقاتها، بقي فيها فقط من عرف كيف يحبُّها، كيف يرى صورة وجهه في الصباح في مرآة حجارتها، أما من حاول تطويعها لتصبح شبيهة به، فقد زال إلى الأبد.
اضف تعليق