تترجل من سيارة “تاكسي” وفي يدك ملف به رزمة أوراق، تتّجه نحو مدخل البنك في الجهة المقابلة. تمنعك سيارة مسرعة من قطع الطريق، و إذا بأخرى، فثالثة، ثم رابعة، تسبّب الاضطراب في انسياب حركة السير لبرهة. تعبر إلى الجهة اليمنى من الطريق بعد عناء و أنت تتمتم كلاما غير مفهوم. حالتك النفسية متردية جدا.
أنت تعرف أنّ مطلب القرض لن يمرّ بسهولة خاصة وأنّ الموظّف المكلّف بإسناد القروض لا يستلطفك. وقد رفض تسلّم مطلبك في مناسبات عديدة سابقة بتعلّة عدم اكتمال الأوراق المطلوبة. تشعر أنه يعجّزك ويرفض مساعدتك على إتمام الإجراءات. أحسست منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها مكتبه في المرة السابقة، أنك قد دخلت مركز الشرطة. أنت مضطر لإظهار اللطف و اللياقة إزاء هذا المخلوق اللئيم، فأنت في أشد الحاجة إلى مبلغ يساعدك على تأمين النفقات المستعجلة لعلاج ابنتك المريضة. تتذكّر قول الشاعر: “الناس للناس ما دام الوفاء بهم، والعسر واليسر أوقات وساعات!”، تقول في نفسك: “لا يهمّ، حتّى الشيطان كان ملاكا ذات يوم.”
تتقدم بخطوات ثقيلة نحو الباب، لفت نظرك أول ما اقتربت تلك اللافتة الكبيرة على الجدار الأوسط. كانت تبدأ من أسفل بصورة رجل وامرأة تشرق من وجهيهما ابتسامة جميلة، ثم فوقها العلامة الاشهارية للبنك. تمرّ موظّفة تحمل فنجان قهوة في اللحظة التي كنت تقفل فيها الباب البلوري للمدخل الرئيسي. قوامها ممشوق و عطرها جذاب ورائحة البنّ تنتشر في الجو.
تدخل إلى بهو البنك وتنظر إلى الزاوية التي يفترض أن يجلس بها ذلك الموظف الذي تخشى ردة فعله. أنت مرتبك ولا تعرف أين تضع جسدك. يداهمك شعور بأن كل الموجودين بالبنك قد علموا باحتياجك للمال وما فتئوا ينظرون إليك بعين الشفقة والاحتقار. يصيبك شكل من الخوف الاجتماعي. تلمح الموظف أخيرا وراء مكتبه يتحدّث مع سيّدة تجلس أمامه. تتمتم والغيظ باد على وجهك: م”ا أتى بهذه الآن؟ ألا تجد وقتا آخر لقضاء أمرها؟ كأنها جاءت خصيصا لتعطيلي؟ إنني أكرهها! هاته الشمطاء العنيدة التي لا تتوقف عن الحديث دون فائدة.”
يظهر فجأة ذلك الرجل الذي يأتي من حين لآخر ليودع أموالا بالبنك وهو يبتسم. يزداد حنقك وتكاد تنفجر.. تقوم السيدة أخير، وتغادر وهي منشرحة الملامح. تقول في نفسك: “لابد أنه وافق على إسنادها قرضا مهما، الآن جاء دوري إذن.” تستجمع ما تبقى لديك من فتات أعصاب وتتقدم نحو الرجل وقد دبّت في مشيتك المتهالكة صحوة نشاط وأمل. تحيّيه بنظرة شاملة تردفها بابتسامة صفراء مفضوحة. أنت ترتعد من الداخل وتحاول أن تخفي ذلك. يدعوك إلى الجلوس فتشعر بطمأنينة ظرفية، تجلس وتصمت. ينظر الموظف في الأوراق ويأخذ في تقليبها ويبطئ في قراءتها. يرسل نظراته من حين لآخر إلى وسط البهو كأنه يراقب شخصا معينا. الملفّ الطّبيّ للبنت المريضة، أردت أن تدعمَ به مطلبك، لكنك تلاحظ أنه يمعن في قراءة المعطيات الطبية! ليست من اختصاصه! بدأ الأمر يقلقك، لا بد أن في الأمر ريبة!
أخذت تدقّق في تفاصيل المكتب: مقلمة فاخرة بجانبها مجموعة ملفات، كتب عليها باللون الأخضر “سرعة الإنجاز” يبدو أنّها تعني أشخاصا مهمّين، ساعة يد الموظف موضوعة على المكتب تشير إلى العاشرة والنصف. تلقي نطرة إلى السّقف فتلمح كاميرا المراقبة تترصّدك. يرفع الموظّف رأسه أخيرا وينظر إليك بعينين لا تفصحان عن شيء. يخاطبك بصوت نفذ إلى أعماق قلبك مباشرة: “يا سيدي أنت تعثرت في خلاص القرض الأول ومازالت أقساط منه لم تسَدّد كما أنّ مرتّبك لم يعد يحتمل التثقيل والخصم. انظر! هذا قسط التعاونية مازال متواصلا إلى آخر السنة و هذا القرض التكميلي لم تسدّد نصفه بعد، آسف.. آسف.. لا أستطيع أن أوافق على مثل هذا القرض. إدارة البنك حتما ستحاسبني على ذلك. أنت تعرف أنّ هناك ضغطا كبيرا مسلطا هاته الأيّام على المؤسسات البنكيّة في شروط إسنادها للقروض بسبب ندرة السيولة المالية. ربما في الفترة القادمة يكون الأمر ممكنا، أما الآن لا يمكن، لا تحرجني من فضلك!
عندما تسمع هدا الكلام تشعر وكأن شرارة نار مسّت زناد نفسك، فتغضب. لم تعد تدري كيف تتصرّف ولا ماذا تفعل بيديك وساقيك وجسمك كلّه. تنهار أعصابك أخيرا وتشبك ذراعيك على صدرك من شدّة الانفعال وتصيح في وجهه: “أيّها الأحمق ألا ترى أني بحاجة ملحّة لهذا المال!؟ يقوم الموظّف ويغادر مكتبه دون أن ينطق بكلمة. تشعر أنّه طحن ما تبقّى من كبريائك. تلملم أنت أوراقك وتخرج. تقف على ناصية الشارع، تنظر إلى العربات والناس يمرّون أمامك دون أن ينتبه إليك أحد، أنت الذي طالما اعتبرت نفسك شخصا محلّ اهتمام. تلتفت يمينا، تقرأ على تلك اللافتة الكبيرة على واجهة البنك ” نحن هنا لمساعدتكم”. تبصق على اللافتة وعلى البنك وتمضي وأنت تلعن اليوم الذي ولدت فيه.
اضف تعليق