بلغت السابعة عشر من العمر ولم أذهب في رحلة مدرسية أبدا. في سنوات المدرسة الابتدائية الست، لا أذكر أنّ رحلة قد نظّمت ولست أدري السبب. ربما لأننا في قرية منسية من قرى الريف أو لأن موضة الرحلات الترفيهية لم تكن دارجة آنذاك. أحاول الآن أن أجد تفسيرا للأمر فأعجز، خاصة وأنّه في سنوات لاحقة لمغادرتي المدرسة الابتدائية نحو الإعدادية، قد نُظّمت رحلات عدة. أذكر من ضمن الأنشطة التي كنا نمارسها آنذاك، نوادي للمرور، المجلة والبيئة، أما الرحلات فلم نحظى بها. عليّ ربما أن أسأل أبي لعلّه يملك إجابة.
بدت لي ماري لوهلة أكثر حظا مني، رغم أننا نتشارك الكثير، فقد حظيت بأول رحلة لها وهي في الصف الثاني الابتدائي. حين كنت في عمرها، كان أقصى مكان ذهبته مركز المدينة. يأخذني أبي إليه مرتين، مرة لشراء لوازم المدرسة وملابس صيفية في بداية السنة ومرة أخرى في بداية الشتاء لشراء الملابس الشتوية ولم يكن هذا الموعد ثابتا ولا قارا.
أنا وماري من قرى قصيّة وإن اختلف المكان على الخارطة. أراها وأراني فيها، تترك صندلها القديم وتنطلق حافية تركض مع أترابها في طرقات القرية الترابية. لا تأبه لحجر ولا طين، كلّ همها آن لا يسبقها أقرانها في الركض نحو ساحة القرية. لعلّ لقريتها ساحة، ففي قريتي بعض مساحات بين دور الأعمام من عائلة واحدة تصلح ساحات للعب، وهي في الأصل بيادر لأعمال الدرس بعد الحصاد صيفا. شعرها مشدود بشريط قماش ملون في داخله مطاط يساعد على جمع الشعر بشكل ذيل حصان، مع غرّة جميلة على جبينها. ليكن شعرها أسود غير منسدل، مثل شعري غير منتظم ولا منضبط، بل منطلقا خلفها يتماهى مع حركتها كمهرة صغيرة مقبلة على اكتشاف الحياة.
كانت يومها تركض نحو بيت صديقتها فاطمة، لتفاجئها، لم تطق الانتظار. دقّت الباب ونادت: “فاطمة، فاطمة.. فينك؟ ” وتجيبها خالتها سعدية -هكذا تناديها ولو أنها جارتهم فقط- “أهي جاية يا ماري، يدوب وصلت م المدرسة”. تسمعها فاطمة وتخرج راكضة: “جيت اهو، في ايه يا ماري؟ مش كنت تتغدي وبعدين تيجي نلعب؟” تسير الفتاتان هذه المرة، لا ركض. عيون ماري أكثر لمعانا، دليل على أمر ما مختلف. لم تطق صبرا وأخبرت صويحبتها عن رحلة الدير التي ستذهب فيها مع أطفال آخرين وعائلات مسيحية.
مبتهجة جدا، تصف الأمر لفاطمة:” حلبس فستان حلو اما نروح، امي قالت انه لسا جديد.. من الست ماجي ال بتعمل خير وبتجيب لبس ولعب للاولاد الشاطرين في المدرسة.. العذراء تحميها.. أبويا بيقول حننبسط ونشوف أماكن ما اعرفهاش واحنا رايحين دير الانبا صموئيل .. يا ريتك تروحي معانا” تبتسم فاطمة مشاركة صديقتها فرحتها:” ماعلش يا ماري، انبسطي وابقي احكي لي كل حاجة”. يخيم صمت، تدرك الفتاتان الفوارق الدينية بينهما دون أن تفهما الأمر تماما، هي فقط أشياء لقّنها لهما الأهل.
حين أبلغونا في المعهد أننا سنذهب في رحلة لمدينة عريقة في التاريخ الإسلامي، لم أستطع أن أبتهج مثل ماري. فقد جاوزت عمر البراءة والفرح اللامحتسب. في ما مضى من سنوات الثانوي والإعدادي، كنت أرى ملصقات تعلن عن رحلات مدرسية من حين لحين دون أن أجرأ على التفكير في المشاركة فيها. أدرك دون أن يقال لي أن الظروف لا تسمح بمثل هكذا أمور. كان الأمر ثقيلا لأني لا أملك أن أقول لن أذهب فهذه رحلة مجانية للمتفوقين، وهي أشبه بمكافأة لهم على نتائجهم الجيدة.
لم تكن عندنا “ست ماجي”، تسعفني بفستان لأذهب به للرحلة، لكنّ أمي اجتهدت رغم رفضي وتدبرت لي ملابس من جارتنا بدت لهما مناسبة لي. بكيت كثيرا حينها لأني لا أملك ثيابا مناسبة ولا أستطيع كما فعلت زميلاتي شراء ملابس جديدة للرحلة. وارتديت مكرهة ملابس جارتنا التي لا تناسب مقاسي، فهي أكبر مني بسنوات وأكثر امتلاء. وذهبت للرحلة وحاولت الاستمتاع أو تظاهرت بذلك وأنا ضائعة وسط الملابس الفضفاضة والحزام يشد البنطال الجينز على خصري لئلاّ يقع.
أنا اليوم على مشارف الثانية والثلاثين، وقد خلت أنّ ذكرى تلك الرحلة لمسجد عقبة ابن نافع في القيروان ذي المكانة المهيبة لدينا نحن التونسيون المسلمون، تلاشت، غير أنّي استرجعت كلّ شيء، وأنا أقرأ أخبار استهداف رحلة فيها أطفال في زيارة لدير وتفاصيل عنهم. لم أنفك أفكّر في أطفال يشبهونني حين كنت طفلة، لا تتوفر لهم مباهج كثيرة غير اللهو مع الأتراب. أهاليهم يشبهون أهلي، ومكانهم من السلم هو ذات مكاني، رحلة لمعلم دينيّ حدث مغاير في أيامنا المتشابهة.. لكنّي عدت من رحلتي المدرسية الأولى والأخيرة ولم يعد أغلبهم، بل عادوا، محمولين على الأكتاف وسط عويل ونواح.
لأرواح الشهداء الأطفال، الذين استهدف الإرهاب رحلتهم.
نهى سعداوي … بالمختصر ضمير الشباب الحالم
♥♥♥