العبارة القائلة أنّ من يعرف عدة لغات، يجب أن يكون منفصم الشخصية، عبارة صحيحة. والعبارة القائلة أن المترجم الجيد يجب أن يكون صاحب شخصيتين: شخصية في اللغة الأم التي ينقل إليها، وشخصية الكاتب نفسه الذي يقرأ له في اللغة الأجنبية التي يجيدها – هي عبارة صحيحة. لقد خبرت العبارتين. خبرتهما. في نومي، رأيت أحلامـًا باللغات الأربعة: العامية، العربية الفصحى، الإنكليزية والروسية، لكن تكمن مشكلة أغلب أحلامي في أنني أكون على وعي أنني أتحدث هذه اللغة الأجنبية أو تلك، دون أن أستطيع أن أحدد تمامًا الكلمات التي استخدمتها لهجتي، تكون أجنبية، خبرت ذلك. خبرته.
صعوبة مع كل لغة
من ضمن الأسباب الأساسية لانعزالي عن المشاع، أنني لم أشاهد الأفلام المصرية المشهورة، بل ويصل الأمر إلى الحد الذي أجد فيه غير المصري أكثر “مصريّة” مني، وهو أمر محزن لي، لكني لم أختر حقا هذه العزلة الثقافية التي تمّت في طفولتي. لقد خبِرت أن أكون غريبًا بين بني جلدي. خبرته. يحدث المأزق عندما أجد نفسي عاجزًا عن التعبير عن شيء معيّن إلا في لغة غير العربية. يكون التحدي صعبًا. الأسهل بالنسبة لي هو التحدث بالفصحى. وعلى عكس الشائع: أترجم باستمرار من الفصحى إلى العامية، هذا يستنفد مني مجهودًا عظيمًا. لقد تعبت جراء ذلك. تعبت حقًا، أتوق لليوم الذي أستطيع فيه استخدام العامية دون تفكير. كم يبدو ذلك صعبا.
لكل لغة صعوبتها. لقد خبرت صعوبة كلّ لغة:
- صعوبة العامية في العبارات غير المترابطة تركيبيا، لكنها على الرغم من ذلك، تؤدي المعنى الذي يريد المتكلم أن يعبر عنه (هذا بالنسبة لي معجزة)، بالإضافة إلى الكثير من “الكلمات الاعتراضية” مثل: (بقى، طيب..). كثُر ما يصعب عليّ فعليًا فهم متى يجب أن أستخدم كلمة “بقى”، ولا أجد لها أيّ مقابل أو فائدة إلا إضافة معنى التأكيد أو التشديد.
- صعوبة الإنكليزية في النّطق. التحدي الأكبر بالنسبة لي هو نطق جملة إنكليزية دون فجوات صوتية. يصعب عليّ مثلا نطق كلمة مثل: sloth أو إذا تم جمعها: slothes. هذه صعوبة كبيرة للساني. بشكل أساسي: أنا لا أطيق صوت الـ ثيتا “ث”.
- صعوبة الفصحى مع حرف الصاد.
شخصية مع كلّ لغة
على الرغم من أنني أقبع تحت الكلمة المكتوبة معظم الوقت، بسبب ندرة الحصول على تخاطب حقيقي مع كائن بشري، إلا أنني أقرأ دائمـًا الكلمات بصوت خفيض. أسمع صوت الكلمات. ليس صوتي أنا الذي يقرأ، بل صوت الكاتب نفسه، إنني أسمع صوت كاتب الكلمات نفسه. لدي أربع شخصيات:
- في العامية أستخدم عبارات الأفلام والشارع، دون أن أعي تمامًا المستوى اللغوي الذي تفيده هذه الكلمة أو تلك -أقصد أيّ الكلمات أكثر قذارة من الأخرى. من فترة قريبة، مثلا، عرفت الفرق بين كلمة أفندم و باشا.
- في الفصحى، اللغة المهذبة، المضبوطة نحويًا، لكنها الجافة، الجافة على نحو مثير للسخرية. أجل، أفهم لماذا أجد الأغلبية يضحكون عندما أتحدث الفصحى -كلّ ما هو كلاسيكي يثير السخرية.
- في الإنكليزية، أستعير معظم تعبيرات رفيقتي الكندية دون وعي سابق مني -مازلت أستخدم كلمة washroom بشكل لاواعي حتى الآن- والباقي أستعيره من الأفلام، والقليل من القراءات.
- في الروسية، أستعير “دوستويفسكي” بطريقة غير صحية، لغته الأدبية الشديدة المط، الكلمات الدخيلة، العبارات الاعتراضية، التقديم والتأخير بالعبارة، تعمد وضع “المفعول به” في بداية الجملة. (مثلاً: كتابـًا أقرأ، تلفازًا أشاهد، بقلم أكتب) الأفعال في نهاية كل العبارات – هي طريقة دوستويفسكي.
اللغة فخ.
لغات أخرى
كانت قيد النمو، تعمدت قتلها: العبرية، الألمانية، الإندونيسية، الفارسية. من الداعي للسخرية، أستطيع قراءة نص كامل بالعبرية، دون أن أفهم كلمة واحدة! فقط أستطيع قراءة الحروف بالإضافة إلى معرفة كيفية نطق الـ17 حركة من حركات النطق. إجابتي الساخرة التي أضعها دائمًا أمام سؤال: لماذا اخترت العبرية؟ – لكي أقرأ التوراة. العبرية على رغم ما يكتنفها من غموض، إلا أنها لغة من جوهرها، أكثر ليونة من العربية. كل المصطلحات المجالية “تعبرنت” ودخلت في القواميس العبرية الحديثة. لكننا حققنا باعًا كبيرًا عندما عرّبنا كلمة Internet: بالكلمة المنحوتة “الشنكبوتية”!
الإنكليزيّة تكفي. جدًا، تكفي.