شاهدت “بنتين من مصر” بالصدفة لأول مرّة هذه الفترة، رغم أنه من إنتاج 2010. ومن يظن أنّ الفيلم يناقش فقط مشكلة تأخر الزواج خاصة عند البنات في مصر، فهو “لا مؤاخذة”، يعاني من تأخّر عقلي كبير في إدراكه وتفكيره. الفيلم عبارة عن 130 دقيقة من تشريح المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في إطار درامي سوداوي كئيب، لكنّه رغم هذا مثير.
البنتين
يحكي الفيلم تجربة بنتين مصريتين: حنان -تؤدي الدور زينة- وتعمل أمينة مكتبة في كلية الطب، وعمرها 30 سنة، و داليا -صبا مبارك- وهي طبيبة نائبة اختصاصها أطفال أو باطنة وعمرها 32 سنة، في مواجهة المجتمع. “بنتين من مصر” غير متزوجتين رغم أنهما جميلتان ومؤدبتان ولم يسبق لأيّ منهما الارتباط أو الصداقة مع رجل لاعتبارات دينية واجتماعية.
حنان
معاناة حنان من عدم الزواج أكبر، ولهذا كانت تحاول دائما رسم خطط للتّعرف على زملائها في العمل، قصدت مكتب تزويج وقدّمت شروطا سهلة لكنّ كلّ محاولاتها انتهت بالفشل حتى جاءت لها زميلة قديمة لها في العمل بعريس -إياد نصار- وهو مدرّس في كلية الحقوق. تمّت الخطوبة فعلا لكنّها سرعان ما “تفركشت” لأنّ العريس مريض بأن “ما عادشي فيه بنت شريفة”، رغم أنّ حنان قدّمت تضحية كبيرة لأجله بأن خضعت لكشف عذريّة لتثبت أنّها شريفة.
داليا
في المقابل، في تجربتها، كانت داليا -صبا مبارك- أكثر احتكاكا مع الوضع العام وإيضاحا لكوارث المجتمع. كان أول شخص تتعرف عليه طبيب زميل ناشط في النقابة للدفاع عن حقوق الأطباء، لكنها تكتشف أنّه “أمنجي”. تدخل بعدها في تجربة صداقة عن طريق النت مع مدوّن ومترجم، تجربة هدفها الفضفضة ليس أكثر. ثمّ تُخطب لمهندس زراعيّ تقدّم لها عن طريق مكتب زواج كانت حنان قد قدمت لها فيه بدون علمها لكنّ الخطوبة “تتفركش” لأنّ العريس اضطر للهرب من مصر لأنّه متعثّر في سداد قرض كان قد أخذه لاستصلاح الأرض.
الظرف السياسي والاقتصادي
يبيّن الفيلم كيف أنّ شرعيّة النّظام الحاكم مهدّدة. في مشهد أوّلَ الفيلم، صوّر وجود تبادل اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة رغم أنّ المظاهرات في 2008 كانت صغيرة العدد وكانت الشرطة تحاصرها بسهولة. كما وضّح الطبيعة البوليسية للدولة في ثلاث مشاهد:
- مشهد في “الأتوبيس” حين صعد الضابط للقبض على راكب بدون أيّ سبب.
- مشهد في مكتبة الكلية وضابط أمن الدولة يقبض على طالب ملتحي. وحين هدّدته حنان أنّها ستبلّغ العميد، قال لها بصفاقة:”أنا ممكن اقبض عليكِ انتِ والعميد.
- مشهد في “الجنينة” حين ألقى أمن الدولة القبض على المدوّن -أحمد وفيق- بعد أن كتب مقالا عن غرق مركب عليها 1300 مسافر.
أبرز الفيلم الظروف الاقتصادية “المهبّبة” وضعف الأجر مقارنة بالأسعار:
- مكافأة الموظفة المثالية تساوي 190 جنيه مصري
- حوافز الدكتورة 330 جنيه مصري
- يشتغل محمد أخ حنان شغلين من الفجر حتى منتصف الليل ليغطي مصاريفه ليسافر في نهاية الأمر للإمارات ويشتغل رئيسا للعمّال مقابل 8000 جنيه مصري.
أشار الفيلم أيضا لمشكلة البطالة متمثّلة في عمرو أخ داليا الذي لا يعمل بينما تصرف هي عليه. وحين يحصل على عقد عمل في الخارج، يكون عاملا في فندق ويسافر على مركب فيغرق زميله ويتعرّض هو للعجز.
أداء الممثلات
أداء زينة وصبا مبارك كـ “بنتين من مصر” ممتاز جدا. تمسكان جيدا بالشخصيات وكما يجب، أداء بدون مبالغة. وقد أعجبني جدا اختيار “الاستايلست” لملابسهما لكنّه كان ليكون أكثر واقعية لو كانتا محجبتين.
في أكثر من مشهد تجعلك زينة تنفعل معها:
- حين كانت تخفّف عن نفسها “تطبطب” على نفسها في العيادة وهي تنتظر معرفة ما إذا كان الورم الذي عندها حميدا أو خبيثا.
- حين توقفت عن الغناء في عيد ميلادها لأنّها بلغت الثلاثين سنة.
- حين كانت تجري كشف العذرية في عيادة دكتورة النساء لترضي خطيبها.
كذلك كانت صبا مبارك في عدة مشاهد:
- وهي تبكي بعد أن تخاصمت مع أحمد وفيق وهي تقول:”أتاريه إحساس جميل أوي إن يبقى فيه حد مهتم بيك”.
- وهي ذاهبة لتقابل العريس الذي تقدّم لها عن طريق مكتب الزواج ونظرتها على علب العصير وتردّدها وتفكيرها بالتراجع.
- وهي تسلّم على خطيبها في المطار وهو يهرب قبل أن يُقبَض عليه.
- وهي واقفة في بلكونة سكن الأطباء تنتظر عاملتها في السكن تنتهي من التنظيف وتراودها أحلام يقظة عن حياتها في الصحراء مع خطيبها الذي هرب.
في الفيلم أكثر من مشهد يمكن وصفه كـ “Master Scene” لكن أفضلها “خناقة” داليا وحنان حول كشف العذرية، ففيه أداء عالٍ جدّا من سلوى محمد في دور طنط عايدة -جارة حنان- وهي التي قاربت الخمسين دون أن تتزوّج.
- أداء سميرة عبد العزيز في دور الحاجة خيرية مميز جدا
- أداء نهال عنبر “فاكس جدّا”، نفس الأداء في أي دور. من المفروض أنّها دكتورة نفسية تريح المرضى لا “تخانقهم”.
أداء الممثلين
في ما يخصّ أداء الممثلين:
- طارق لطفي، المهندس الزراعي أداءه كعادته دائما “حلو”.
باقي الأدوار الرجالية برأيي بدون معنى، تقريبا، وخاصة أحمد وفيق الذي يلعب دور المترجم والمدوّن. أعتقد أنّ المؤلّف، وهو يكتب، كان في رأسه شخصيّة وائل عباس “يخرب بيت تقل دمه”. هذا رأيي رغم أنّ الأصدقاء الذين علّقوا على الفيلم يرون أداءه جيدا، على عكسي. وهو يقول أنا باختصار “بني آدم مش سعيد”، أمّا الأسوأ منه فهو عمرو حسن يوسف الذي يلعب دور أخ داليا، “يخرب بيت التناحة”.
الترميز والموسيقى
أقول لمحمد أمين المؤلف والمخرج: “أنت معلّم كبير كبير.”، في حبكة وفكرة الفيلم، في السيناريو، في اختيار الأبطال وفي اختيار أماكن التصوير والكادرات. لفتتني فكرة رمزية وتشبيه البلد بـ “السفينة التي تغرق، ولا أمل في النجاة إلّا عبر المطار”. ظهر مشهد السفينة وهي تغرق 5 مرّات في الدقيقة الأولى من الفيلم، الدقيقة 21، الدقيقة 40، الدقيقة 85 والدقيقة 120. في المقابل، ظهر المطار الذي هو بوّابة النّجاة 5 مرّات أيضا:
- في سفر المهندس جمال وهو يهرب
- في سفر محمد أخ حنان وهو يسافر للعمل
- في سفر عمرو أخ داليا
- في سفر طارق ابن خالة حنان
- حين ذهبت حنان وداليا لمقابلة العريس في المطار
الموسيقى التصويرية للعراقي رعد خليفة مدهشة لكنّها حزينة جدا، في إطار الخطّ العامّ للفيلم. لست أدري هل هي فكرته أم فكرة المخرج أن يستعين بآيات القرآن خلفيّة للأحداث.
مقتطفات
في الفيلم أكثر من جملة تستحقّ وضعها في إطار:
احنا في بلد تأكّد تماما أنّه ملوش مستقبل،. وكون إن احنا كويّسين وأخلاقنا عالية، مش هيفيد بحاجة، لأنّ البلد خلاص على المنحدر، ونازلة نازلة. ولا حتى رسول يقدر يمنع ده!
احنا في مجتمع وصل به الفُجر إنّ روح الإنسان اللي هي سر عظمة ربّنا ملهاش أيّ قيمة. في مجتمع زي ده، إزاي أجرأ أكوّن أسرة وأنا عارف إن ممكن تيجي مصيبة في أي لحظة؟ في مجتمع زى ده، ما نقدرشي نحمي اللي بنحبهم. إزاي يبقي ليا ابن أكبّره وأحبّه وأحلم معاه، وبعدين يموت في قسم بوليس؟
ختاما
آخر ما يستوجب اقتراحه، هو أنك إذا قررت مشاهدة “بنتين من مصر” فكل جيّدا قبل ذلك، لأنّك ستكتئب وتفقد الشهية للأكل مطوّلا. ولتخفيف حدة الأمر، شاهد فيلما كوميديا للخروج من الحالة.
إعداد: أحمد السعدني
إعادة صياغة: نهى سعداوي
اضف تعليق