في البداية، تقريبًا أيّ اسم روسي، إذا تم تتبّع أصله اللغويّ والتاريخيّ (علم الإيتمولوجي/Etymology)، فإنه يحمل بشكل مـــا معنى. كلمة: “دوستو-” هي بادئة/prefix تضاف إلى الكلمات لتعطي معنى “فائق، عظيم، متجاوز، جدير”. كلمة: “دوستوينستفا” – تعني الكثير من المعاني التي تدور في إطار: “كرامة، هيبة، جدارة، عزة نفس، احترام الذات، فضيلة، منقبة، استحقاق.” أمّا اللاحقة “-يفسكي” فتضاف إلى أسماء ذكور بعض العائلات وتتحول في المؤنث إلى “-يفسكايا”.
هل اسم “دوستويفسكي” اسم على مسمى؟
أجل، إنّني أقولها بكلّ ما فيّ من جوارح، أجل، ثمّ أجل، ثم أجل. لماذا؟ إنّني مازلتُ تحت تأثير صدمة قراءة روايته الوجودية التي هزت الأوساط الأدبيّة في القرن التاسع عشر (فلا أستطيع التحليل أو الإدلاء بأي رأي).
“مذكّرات من القبو، مذكرات قبو، في قبوي، في سردابي..” في كلّ هذه العناوين، سلك كلّ مترجم منحاه وفقًا لما فهمه، ولما استوعبه من النص. لكن ماذا كتب دوستو نفسه؟
عنوان الرواية حرفيّا يُترجم كالآتي: “مذكّرات من تحت الأرض.” تستخدم كلمة “تحت الأرض” بشكل مجازي أو بشكل مباشر، إلا أنّ الشكل المجازي يغلب عليها، وهي تعبّر عن الاجتماعات السرية لأعضاء أيّ جماعة أو حزب. مـاذا يقصد دوستويفسكي؟ هل يقصد أن هذا الكائن الحشرة، هذا الجرذ الصغير، الذي يكتب عن خلجاته النفسية، عن منازعاته، إنما هو يجتمع اجتماعًا سريًا مع البوح، مع القلم، مع الألم؟
تتكوّن رواية “مذكّرات من تحت الأرض” بالروسية من 90 صفحة، بينما الرواية المترجمة “مذكرات قبو” تتكون من 200 صفحة. ماذا يعني ذلك؟ 100 صفحة على الأقل زائدة عن النص الأصلي؟ أجل.. أجل، 100 صفحة لم يقلها دوستويفسكي، بل قالها المترجم من خلال فهمه لكن، لمـاذا؟
كيـف هي الجملة الدوستويفسكية؟
إنها جملة قد يتمّ مطّها إلى نصف الصفحة أو ثلاثة أرباعها. عندما أقرأ لدوستو، فإنني أقول في نفسي: “يا للهول! أين النقطة الملعونة لتنهي هذه الجملة!”. الجملة طويلة، طويلة لحدّ يجعل الأنفاس تنقطّع. عندما أصل إلى نهاية جملة دوستو، ألتقط أنفاسي، أغمض عينيّ، كأنّني أدّيت مهمّتي بنجاح، هل وصلت حقًا لنهاية الجملة! وما ألبث حتّى أنسى بم تمّ ابتداء الجملة به! فأعيد قراءة الجملة مجدّدًا!
لقد قرأت النص المترجم، فلم أفهم سوى 25% من النص. قرأت النص الأصلي، فلم أفهم سوى 25% من النص. الحاصل 50% بعد قراءة النص بلغتيه الأصلية والمترجمة. هل هذا طبيعي؟ هل العيب فيّ؟ كلّا. إنّ هذه هي عبقرية دوستويفسكي.
يستخدم دوستو تعبيرات غامضة. عندما قرأتها بالنّص الأصلي كانت ضبابية، وعندما رأيت كيـــــف ترجمها المترجم، صارت أكثر ضبابية. بالإضافة إلى أنّه يستخدم كلمات غير موجودة في القاموس. معقول؟ نعم، كلمات هو ينحتها، كلمات هو يؤلّفها للمرة الأولى في اللغة! كلمات غير موجودة في أيّ قاموس.
كيف هو الأدب الروسي بالروسية؟ -1- تشيخوف
ترجمات دوستويفسكي المختلفة
إنّني أعلم كم يكن أولئك الذين قرأوا ترجمة الدكتور سامي الدروبي في دواخلهم من محبّة واحترام له، لكنّني أعتذر، أعتذر لهم جميعًا أنّ ترجمة الدروبي (مزعت رقبة دوستويفسكي “أعتذر أنّني استعرتُ هذا التعبير، لكنّني حقّا أحتاجه هنا”) لمـــاذا؟ لأن الدروبي مط جمل دوستو أكثر مما هي ممطوطة بالأصل! هذا فظيع! لا يمكنني تحمّل ذلك حقًا.
جاءت ترجمة “أحمد الويزي” في “مذكرات قبو” المنشورة عن المركز الثقافي العربي، قريبة إلى درجة كبيرة جدًا من نص دوستو. لم يضف المترجم أيّة تفسيرات أو مطّ في الجمل مثلما فعل صاحبنا الدروبي. باختصار، ترجمة الدروبي هي ترجمة تفسيرية للنص. بعبارة بسيطة: دوستويفسكي لا يكتب بهذا الوضوح الذي يظهر من خلال ترجمة الدروبي!
هناك تعبير استخدمه دوستو في السطر الثالث ببداية الرواية، ترجمه الدروبي و الويزي:
أنا لا أفهم في مرضي أيّ شيء.
رغم أن التّعبير الذي استخدمه دوستويفسكي عامّي فجّ، وقديم للغاية، ولا يتّضح بدرجة كبيرة إلا إذا تمّ ترجمته إلى الإنكليزية على هذا النحو:
“I don’t know beans about my disease.”
Or “I don’t know a damn about my case.”
يمكن أن أترجمها بالعامية المصرية: “أنا ماعرفش أيّ نكلة عن موضوع مرضي دا.” هذا التعبير العامي، بالضبط، هو ما يقصده دوستويفسكي، هذا التعبير العامي والفج. وليس التعبير المهذب الذي تطرحه الفصحى.
كيف هو الأدب الروسي بالروسية؟ -1- تشيخوف