عملية القراءة، بما هي عليه من كونها اطّلاعا على أفكار شخص آخر، وأراءه وخبراته وتمديدا لمساحات التجربة الوجدانية والذهنية للقارئ، لا يمكن أن تكون ذات وجه وحيد وطريقة وحيدة فى التّنفيذ. وقد بدا لي على مدار سنوات من المتابعة لبشر يقولون أنّهم يقرأون باستمرار، وتشهد صفحاتهم الشخصية على موقع مثل Good Readers بكثرة الكتب المقروءة، أنّهم في أغلب الأحوال يتّبعون طريقا وحيدا فى عملية القراءة. وهو في رأيي المتواضع طريق يعارض طبيعة القراءة كما أراها عمليةّ فعّالة ونشطة للخلْق المعرفي.
هل القراءة مراكمة معلومات؟
وقبل أن أستمرّ وأوضّح هذة الطريقة وما تنطوي عليه من تنكّر لعملية القراءة كما ينبغي لها أن تكون، أتوقّف قليلا لأقول أنّ هذه الممارسة مبنية ومؤسّسة في المقام الأوّل على تصوّر مسبق عن المعرفة يحصرها فى مجرّد مراكمة المعلومات. ولعلّك –عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة- قد لاحظت في مرات كثيرة من يتكلم عن القراءة فيستخدم مصطلحات من نوعية “بناء” المعرفة، “تكوين” الوعي، ونحو ذلك. وهاتان اللّفظتان، وما في معناهما، تعبّران عن جوهر الأزمة. أعنى أزمة التّعامل مع المعرفة بوصفها كيانا مادّيا قابلا للتّكوين والبناء والتّراص، كقيام أحدهم ببناء بيت على سبيل المثال، أو رصّ قطع الدومينو وراء بعضها.
إن التعامل مع المعرفة باعتبارها شيئا قابلا للبناء والتكوين والمراكمة، يفضي بنا بالضرورة لاعتبارها مكوّنة من أجزاء أصغر منها، هي المعلومات، التي تصبح –الآن، ومع هيمنة هذا التّصوّر عن المعرفة- هي الهدف النّهائي المرجوّ من فعل القراءة. فكيف يمكننا أن نراكم شيئا ما إلّا إذا كان هذا الشيء نفسه قابلا للمراكمة؟ ولا أعتقد أنّ هناك من يختلف معي في أنّ هذا الهدف –مراكمة المعلومات فوق بعضها- هدف سخيف. تكون نتيجة جهود القارئ الذي يعيش أسيرا للتّصوّر المعلوماتي عن المعرفة صرحا مهيبا من المعلومات التي ينسيه جديدُها قديمَها، ويسحق أعلاها أسفلها من فرط ثقل البناء. فالبديهي أنّ المعلومات بحر لا شطآن له. وبحسب هذا التّصور، تصبح للمعلومة قيمة في ذاتها، وكذلك لأختها الكبرى (الفكرة)، ولأبيهم العجوز أيضا (الكتاب).
يجد القارئ المعلوماتي نفسه محاصرا بكميّة لا حصر لها من المعلومات والأفكار والكتب التي يريد أن يقرأها بأكملها، وهي المهمّة المستحيلة بالطبع. ممّا يدفعه للإحساس بالعجز وربّما التّوقف عن القراءة تماما. من ناحية أخرى، هناك نموذج آخر يتعامل مع المعرفة بطريقة مغايرة للطريقة الأول، أنّه ينظر لها في كلّيتها، لا في صورتها المجزّأة إلى معلومات مفردة وأفكار مستقلّة وكتب متناثرة هنا وهناك، يراها جوهرا متطوّرا على الدّوام، لُبّا نشطا، أو بتعبير بسيط ومختصر، يراها كائنا حيّا يتنفس.
القارئ: صناعي أم مزارع؟
هنا أريد أن أختصر الأمر وأفرّق بين النّموذجين بعبارة بسيطة. النموذج الأوّل نموذج صناعي في التعامل مع المعرفة، يجزّئها إلى أبسط أشكالها المادية. تصبح عملية “بنائه” للمعرفة عمليّة جمع معلومات متفرقة، ورصّها واحدة وراء واحدة وراء أخرى، أو مراكمة فوق بعضها حتى ينتصب ذلك البُرج الشامخ الذى يدكّ نفسه دكّا كلّما تطاول فى الإرتفاع.
القارئ الصناعي، كعمّال المصانع، يولي اهتمامه لمهمّة مفردة يتعّين عليه القيام بها على مدار ساعات محدّدة يوميا، والقيام بنفس الأمر يوميا، مدى الحياة. يقابله القارئ المزارع، الذى يتبنى نموذجا زراعيا فى “خلق” المعرفة. الأوّل يصنعها ويبنيها. والآخر يزرعها ويرعاها، يخلقها. يكوّنها كما يتكون الكائن الحي في رحم الكائن الحي.
التصور الزراعي للمعرفة باعتبارها حقلا خصبا قابلا لإنبات أكثر من شجرة، لا مصنعا ينتج سلعة واحدة، يرى المعلومات كمادة للمعرفة، لا المعرفة نفسها. ويرى الأفكار بذورا فى حقل الوعي، قابلة للإنبات والنمو والإثمار، لا موادا خاما. والأهم من كل ما سبق أنّه يولي اهتماما مكثّفا بالقارئ ويضعه فى صلب عمليّة الخلق والإنبات تلك. إذ يتعين على القارئ أن يكون مزارعا نشطا يرعى غرس يديه يوما بيوم، عاما بعد عام، حتّى يتكوّن لديه بستان منسّق وجميل، يخطف الألباب ويلفت الأنظار، على عكس العامل الذي لا يشغل باله سوى الانتهاء من المهمّة المكلّف بها.
القارئ الصّانع لا يريد سوى الانتهاء من الكتاب فى أسرع وقت كما ينتهي العامل من مهمّته فى أسرع وقت.
إنّ القراءة أشبه ما تكون بحقل زراعي يمكن لكلّ إنسان أن يزرع بذوره فيه وينتظر أن تنبت وتنمو وتثمر أفكارا متماسكة ووجهات نظر يستطيع بها مواجهة العالم من حوله، والمساهمة فى تغييره أو على الأقلّ فهم تغيّره. ولا يمكن لها بأيّ حال أن تكون مصنعا ينتج نوعا وحيدا أو أنواعا متشابهة من الأفكار والنظريات والفلسفات المغلقة على ذاتها والتي لا تستطيع أن تتعاطى مع الواقع في تحوّله المستمرّ. وما أحوجنا في مجتمعنا العربي الحزين إلى قرّاء مزارعين.
اضف تعليق