هل نحن أشياءٌ وهل بشرٌ همُ؟
هل دمنا ماءٌ وهل دمهمُ دمُ؟
-آدم فتحي-
قد يبدو العنوان لمن يقرأ “شعاراتيا” وقد تبدو هذي الأسئلة-الأبيات كذلك، لكنّي كنت في كلّ مرّة تخطرني أغصّ بها، أتألّم وأغضب لأني كبرت في موقع متدنٍّ من السّلم يجعلني أعي أنّ الأجابة دائما “نعم”. والحقّ أنّ “نعم” إجابة لا تتغيّر وإن تغيّر إطار الأسئلة من الشخصي الضيق إلى الوطني الأوسع.
عادت “نعم” لتدقّ رأسي اليوم، وأنا أتصفّح صور عائلات شهداء الجيش الوطني التونسي الذين ارتقوا منذ يومين في “القصرين”. “القصرين” في الوسط الغربي التونسي المهمل، تحاذي الجزائر وتعرف بوعورة تضاريسها وقسوة مناخها خاصة شتاء. التضاريس وواقع اقتصادي واجتماعي تعيس شجّع الإرهابيين على التمترس بجبال الشطر الغربي من البلاد، ليقتنصوا المجندين أحيانا ورجال الأمن أحيانا أخرى والمواطنين العزّل أيضا. لا أظنّ أحدا نسي رأس الطفل الراعي التي أرسلت لأهله في كيس، أم أنّ ذاكرتنا في ما يخصّ الموت أصبحت قصيرة أو هي انتقائية؟
الحق، أنّ الإجابة أيضا “نعم”. وإلّا ما كان خبر استشهاد مجنّدينا في “جبل سمامة/القصرين” ليمرّ كغيره من الأخبار. صور أهاليهم ومساكنهم تزيد في تقطيع قلبي. بيوتهم تشبه بيتنا، أمّهاتهم كأمّي. نحن وهم من جماعة “أسفل السلم” الذين لا يلاحظهم أحد حتّى في موتهم، وإن كان شهادة في سبيل الوطن. هذا الوطن الذي ينتقي فقراءه ليموتوا ويعيش الآخرون. فلو وجد الشاب الذي بدأ أوّ خطوات الشباب فرصا للتعلّم والشغل كغيره، هل كان ليختار التجنيد؟ التجنيد الذي لا يُلزم به إلّا أبناء الفقراء ويُستثنى من دوراته أبناء علية القوم. هل رأيت “ابن ذوات” يدخل الجيش مجنّدا عاديا؟ هؤلاء إن دخلوا الجيش يدخلونه في مراتب عليا قلّما تنزل لميادين المواجهة. وأمّا من يسقط من الجيش أو الأمن من هؤلاء، فله التكريم والحظوة الإعلامية وقد يصل الأمر لتعويض بعض أهله بعمادة أو وزارة. أليس دمنا ماء ودمهم دم؟
ما لفقراء هذي البلاد إلّا الموت بصمت ومن قبله الخذلان ومن. هذا ما تقدّمه حكومات التوافق والمقايضات. المضحك المبكي أنّ تتالي أسماء الشهداء قد أنسى الكثيرين أنّ عالما تونسيا اسمه “حاتم بالطاهر” قد سقط برصاص قناص على رصيف مدينة منسية أخرى اسمها “قبلّي” في الجنوب الغربي التونسي أيضا. لم يسقط، بل ارتفع وإخوانا له كثرا في الثورة التونسية، التي تكاد تكون اليوم ذكرى ضبابية في الأذهان. هل ذهب حقّ حاتم بالطاهر وغيره من الشهداء، أدراج الرياح؟ “نعم” مجددا، لم يكن علمه كافيا ليلقى حظوة ولم تكن إرادة الحياة عندهم وعنده وكسر القيد لتجعل القائمين على شأن البلد منصفين. هم منا، دمهم كما دمنا ماء.
أغالب البكاء وأنا أطالع صور ضحايا الحادث المروّع الذي جدّ اليوم في “القصرين” المنسية، كأنّ الموت قد وقع في حب هذي المدينة التي كرهها ساسة البلد عبر التاريخ وتركوها للمجهول، تصارع الريح الغربي والبرد والفقر. جثث متفحمة وأجساد محروقة، ولا مستشفيات مجهزة ولا ما يكفي من سيارات الإسعاف وفوق هذا لا طرقات تصلح لبلوغ الضحايا ونقلهم لإسعافهم. سيموت أغلب من لم يمت، قبل بلوغه مكانا يصحّ القول بأنه “مستشفى” وهو طبعا شمالا، في طرف الخريطة في العاصمة. هذا لببساطة لأنّ دمنا ماء.
دمنا الذي نحمله على أكفّنا كلما مسّ البلاد شرّ، يبدو أن لا قيمة له. أهازيجنا وهتافنا وأجسادنا التي نقدّمها للبلاد، لا معنى لها. لا قيمة ولا معنى لنا عند حكومات التحاصص والترضيات. الحكومات التي تحفظ أرواح وأموال آخرين في أعلى درجات السلم. تهرق دماءنا، تمتصها، لإلّا يمسّ هؤلاء بعض سوء. يقتطعون من أرواحنا للحفاظ على أرواح هؤلاء.
الدم الذي لا يتساوى والدمع الذي ينتقي على من ينزل والكثير الكثير من أشكال الانتقائية، لن يزيد الغضب إلّا تأججا ولن يزيد الوعي الحارق إلّا اتقادا.. والأيّام ستخبر عن دم ظلّ لزمن ماء يسقي أرضا عطشى لا ترتوي، أنبت ونما وأورق. دمنا الماء، لا يزال على “بخسه” يشحنني فلا أرضى بالحال ولا أستكين. “سيطلع من هذي العتمة قمر” على رأي درويش، ولو أنّي لا أرتضيه مثالا.
اضف تعليق