تمهيد
يتم تجاهل تفاصيل الفتح العربي لمصر من المصادر القبطية وأشهرهما على الإطلاق ” مخطوطة يوحنا النقيوسي ” و ” ساويرس بن المقفع ” بحجة أنهما قبطيان متحاملان على العرب وشهادتهما مقدوح فيها. لذا فقد غلّف الصمت الرهيب هذين الصوتين وغيرهما؛ لأنهما خالفا الحالة العامة التي تتغنّى وتغرّد وتسبّح بحمد الفاتحين الغزاة، وأنّ أقباط مصر استقبلوهم بالأحضان، وحاربوا معهم الرومان، ولم تسل قطرة دم قبطي واحد على أرض مصر؛ لأن ابن العاص فتحها بأغصان الزيتون وكلمات السلام الممنون.
ولكن، في الأصوات العربية التي لم تخرج عن رضا الحاكم كان الطبري والسيوطي أشهر صوتين اتفقا مع النقيوسي وابن المقفع القبطيين. وذلك في مقاطع وإشارات عارضة تجاهلها الكثيرون الكثر، ولكنها لا تغيب عن أقل باحث مدقق يسعى لسبر غور الحقيقة وإماطة لثامها.
-1-
يقول الطبري بأن الجيش العربى الفاتح/الغازي قد أسر أعدادا كبيرة من المصريين، أو أنّ صفوف العبيد من القبط امتدت من مصر إلى المدينة. فينقل عن رجل من أهل مصر – أو بمعنى أصحّ عن عربيّ سكن أرض مصر – وكان في جند عمرو بن العاص أثناء الفتح/الغزو أنه قال: لما فتحنا “باب إليون” (بابليون أي مصر القديمة الآن) تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الأسكندرية قرية فقرية، حتى انتهينا بلهيب – وهى مدينة الزناطرة بالبحيرة، ومحلها اليوم فزارة بمركز المحمودية – قرية من قرى مصر – يقال لها الريش وقد بلغت سبايانا المدينة ومكة واليمن) [الطبرى : تاريخ الطبرى – الجزء الرابع ص 105] وتنقل هذه الرواية الصفوف الطويلة من العبيد والجواري الذين انتزعهم الجيش العربي الإسلامي من قراهم وبعث بهم في ذلّة وانكسار إلى مدن الجزيرة العربية بعد فقدان حريتهم ووطنهم مصر.
هذا يعني بداية أن جيش عمرو بن العاص المعزز ببدو سيناء لم يحارب الرومان فقط، وإنما واجه مقاومة قبطية شديدة. كانوا بمئات الألوف. فإذا كانت السبايا بتلك الأعداد التي ذكرها الطبري فكم عدد من حاربوا ؟ وكم عدد من قُتِلوا ؟ وكم بلغ عدد الذين فرّوا من ساحة المعركة بعد أن حلّت الهزيمة بساحتهم؟ هو مجرد استنباط منطقي، ولا أظنّ يخالفني فيه الكثير إلا لو كان لديه مخرج يقول بأن تلك الأعداد من أقباط مصر كانت أعدادا قليلة، وأن الطبري كاذب في سرده. ولكن، هل كانت تلك الإشارة إشارة ” طبرية ” فقط؟
الحق أنه لا فـ” البلاذري ” في ” فتوح البلدان ” يذكر ويشهد عن تلك الواقعة فيقول:”وكانت قرى من مصر قاتلت فسبى منهم والقرى بلهيت والخيس وسلطيس، فوقع سباؤهم بالمدينة (1)” [البلاذرى – فتوح البلدان – القسم الأول ص 253]. وهنا يحضرني سؤال: إذا كان كل من الطبري والبلاذري قد أشارا لوقوع تلك السبايا والأسرى في صفوف أقباط مصر من الجيش الغازي – الفاتح – فلماذا استنكر المستنكرون إشارة النقيوسى إلى أن العرب: نهبوا الكثير من الأسلاب وأسروا النساء والأطفال وتقاسموهم فيما بينهم، ولم يستنكروا إشارات الطبرى والبلاذرى وابن عبد الحكم إلى السبي المصري الذي تم إرساله إلى المدينة بعد القهر الحربي لهم؟ وإشارة البلاذرى وابن عبد الحكم إلى أن عمر بن الخطاب رد هؤلاء المصريين “حينما صيرهم وجماعة القبط أهل ذمة” أو أنّه طلب إيقاف وقود السبى الجديد، بينما تغاضى عن ما تفرق فى أيدي العرب لأنه لا يستطيع لهم ردا. هل كانت هذه الإشارة تعني تسامح ابن الخطاب مع القبط ودفاعه عن حريتهم؟ أم كانت تعنى أنّه ينظر بعين الحاكم العملي الذي يريد ترسيخ نوع آخر من العبودية الجماعية، هي عبودية العمل وأداء الجزية ومختلف أنواع الضرائب (مجرّد فرض الأموال على الأقباط وجبايتها) التى تعود على بيت المال بفائدة أكبر. وهو نفسه القائل:”لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحبّ إلي من فيء يقسم ثم كأنّه لم يكن.” [ تاريخ الطبرى – ص 105]
لم تقف الإشارة للحادثة فقط عند هذين المؤرخين، ولكن ابن عبد الحكم يشير إلى نفس الواقعة متفقا مع النقيوسي القبطي – مع الإشارة أن ابن عبد الحكم اختلف مع النقيوسي في توقيت الحادثة. فابن الحكم ذكر أنها جاءت مع الفتح الثاني للإسكندرية. إذ يصف ابن الحكم ما فعله جنود عمرو في ” الخربة ” فيقول عن أهلها: “كانوا كلّهم رهبانا. ومع ذلك قتلهم عمرو بن العاص جميعا وخرب المدينة خرابا لم تشهد مثله من قبل حتى سمّيت بعد ذلك وحتى الآن بالخربة. “
-يتبع-
اضف تعليق