تُواجه كل الثورات تقريبا مجموعة من الاستحقاقات الثورية الصعبة التي من أبرزها كيفية التعامل مع جهاز الدولة القديمة الموروث من قبل الطليعة الثورية سواء كان هذا التعامل هدما”ثوريا راديكاليا” أو عملية إصلاح حذرة. وقليل جدا من الثورات أجادت هي ونخبتها التعامل مع هذه المؤسسات الموروثة سواء كانت الجهاز البيروقراطي المتضخم في المؤسسات المدنية والعسكرية على حد سواء، أو الموظفين أصحاب الولاء للنظام السابق والذين هم النواة الصلبة للثورة المضادة إذا ما أرادت الانقضاض على الثورة.
خير من أجاب عن هذه الإشكالية هي الدكتورة المصرية أمل حمادة في دراستها حول الثورة الإيرانية “الخبرة الإيرانية في الانتقال من الثورة إلى الدولة”، حيث تناولت في الفصل الثالث من هذه الدراسة الإطار المؤسسي الذي سلكته “الثورة الخمينية” في العام 1979 ضد “النظام البهلوي” بقيادة الشاه محمد رضا بهلوي. فقد أدرك الخميني في وقت مكبر من نجاح الثورة أن الشرعية الدينية والثورية للملالي وجماهير الثورة وحدها لا تكفي لاستمرار مشروعهم السياسي، وأنه لابد من تدعيم بناء مؤسسات جديدة لنظامه الثوري. فقام مستشارو الخميني أثناء منفاه الاختياري في فرنسا بمراجعة شاملة للمؤسسات الشاهنشاهية وقسمتها إلى مؤسسات موروثة قابلة للتعديل وأخرى ينبغي موازنتها بأجهزة موازية لأنها غير مضمونة الولاء للثورة، وأجهزة غير قابلة للإصلاح ويتعين هدمها بالكامل بالإضافة إلى أجهزة مستحدثة بالكامل.
ظهرت لدى الخميني في أوائل الستينات أسئلة حول الدور السياسي للعلماء أو ” الملالي” و جدارتهم لتولي مسؤولية الحكم بشكل مباشر. فنفض الغبار عن فكرة شيعية قديمة متداولة لدى عدد غير كبير من المعممين ترى وجوب تنصيب نائب على الأرض للإمام الثاني عشر الغائب (1) لدى الجعفرية الذي لا يجب أن تقوم الثورة إلا بقيادته عند انتهاء عصر الغيبة. وعلى أنصاره أثناء ذلك أن لا يعترفوا بشرعية النظم القائمة التي سلبت آل البيت حقهم في الخلافة من خلال عدم دفع الزكاة لهم، وعدم صلاة الجمعة خلفهم، واتخاذ التقية كوسيلة وسلوك للحماية الشخصية لمن هم خارج منظومة السلطة، وتسهيل المعاملات اليومية لأتباع الإمام الغائب في مواطن الخطر. رأى الخميني أن هذه الأفكار تنسف طموحه الثوري فأعلن في أواخر السبعينات “أن ممارسة التقية مع الظالمين حرام شرعا” في برنامجه السياسي والفكري المعروف بـ ” الحكومة الإسلامية” (2) والذي اعتبر فيه أن إقامة الحكومة الإسلامية هو هدف أي عملية إصلاحية من داخل النظام أو ثورية من خارجه حيث رأى “أنّ الحكّام لو اقتنعوا بصحة كلامه واتّبعوه، لن ينافسهم على الكرسي. ومن خلال تحالف بين الخميني وحركات يسارية وتجار البازار (3) قامت الثورة وانتصرت في مدّة وجيزة لتبدأ عملية بناء النظام الجديد.
أولا: المؤسسات المستحدثة
تعرف الكاتبة تلك المؤسسات بأنها مؤسسات لم تكن موجودة داخل الهيكل الإداري في المملكة البهلوية إبان قيام الثورة. فالخميني أدرك في وقت مبكر أنه يجب أن يكون للثورة مؤسساتها السياسية والإقتصادية والتنموية والفكرية التي تعبر عنها وعن مشروعها الإيديلوجي المتعلق بتصدير الثورة.
1-المؤسسة السياسية:
وعلى رأسها ولاية الفقيه الذي يضطلع بمهمة إرشاد الثورة والحفاظ على ثوابتها والوصي على السلطة التنفيذية، ومجلس صيانة الدستور الذي هو الكيان التشريعي الوصي على البرلمان والمعني بفحص كافة القوانين في 10 أيام ومدى مطابقتها للشريعة الإسلامية قبل صدورها. وأيضا مجلس الخبراء المعني باختيار الولي الفقيه ومراقبته وعزله.
2-المؤسسات العسكرية والأمنية:
أبرز تلك المؤسسات حسب الكاتبة هي مؤسسة الحرس الثوري والذي نص الدستور الإيراني في مقدمته “أن مهمته تتجاوز مسألة حماية الحدود الجغرافية للدولة، إلى مهام تتعلق بالجهاد وبسط حاكمية القانون الإلهي في العالم”. (4) وهو قد تشكل أساسا من لجان ثورية كانت تعنى بتنظيم المظاهرات المناوئة للشاه قامت عقب وصول الخميني بمهاجمة مخازن السلاح التابعة للجيش والشرطة وقامت بالإستيلاء عليها. وقام الخميني بتنظيم هذه اللجان وأعلن تبعيتها له بشكل مباشر. بالإضافة إلى قوات التعبئة الباسيج التي تعنى إلى جانب الحرس الثوري بمكافحة أعداء الثورة في الداخل وضمان استمرارها.
3- المؤسسات الإقتصادية:
نص الدستور الإيراني على أن الإقتصاد الإيراني يتكون من ثلاث مكونات رئيسية وهي القطاع الحكومي والقطاع التعاوني والقطاع الخاص، لكن اعتماد النظام الجديد كان على المؤسسات ذات الطابع الخيري كمؤسسات المستضعفين، ومؤسسة الشهيد، ومؤسسة إمداد الإمام كأذرع داخلية: تستهدف توسيع قاعدة المستفيدين اقتصاديا من النظام وتطوير البحوث العسكرية بالإضافة إلى تنفيذ المشروع الإقتصادي للثورة، وكانت هذه المؤسسات هي الداعم والممول الأكبر لمشروع تصدير الثورة فما تدفعه إيران للمليشات الشيعية لايكون من خزينة وزارة الخارجية بل من خزينة مؤسسة المستضعفين التابعة للمكتب المرشد.
4-ممثل المرشد:
وهذا شخص يوجد في كل محافظة ومدرسة ومؤسسة ووزارة ينوب عن المرشد الأعلى للثورة في الرقابة على هذه المؤسسات ولايرفع تقريره إلّا للمرشد وهي وظيفة معلوماتية.
ثانيا: المؤسسات الموروثة والمعدلة
هي مجموعة المؤسسات التي سبق وجودها قيام الثورة ولم تقم الثورة بهدمها بل قامت بمحاولة ترويضها وطبعها بطابع الثورة، وخلق مؤسسات جديدة توازيها وتقلل من خطورتها على الثورة الوليدة. والسبب في ذلك يرجع لأن الثورة في بداياتها كانت تفتقد الكوادر النوعية التي يمكن من خلالها تدوير عجلة بعض مؤسسات الدولة.
1-المؤسسات السياسية والأمنية:
من بينها وزارة الخارجية ووزارة الداخلية (وزارة المخابرات والأمن في إيران). فعلى صعيد وزارة الخارجية، شهدت أوّل سنوات الثورة حملات متعددة لطرد العديد من الدبلوماسين أصحاب الخبرة لصالح أصحاب الثقة بحجة ارتباطهم بشبكة علاقات مع النظام البهلوي السابق، لكن تم الإبقاء على صغار الموظفين برقابة وإشراف من ممثل المرشد الذي يتواجد في كل المؤسسات.
شهدت وزارة الداخلية كذلك تعديلات على عقيدتها فأفتى الخميني بأن أجهزة هذه الوزارة يجب ترأسها من قبل رجل دين فقط.
2- الجيش:
يعود الفضل في نشأة الجيش الإيراني الحديث إلى رضا بهلوي (مؤسس السلالة البهلوية)، الذي كان جنديا عاديا في الجيش قبل أن يترقى ويقود انقلابا ضد الحكم القاجاري (5) ويعلن على إثره قيام الإمبراطورية البهلوية، ومع انتصار الثورة وإستيلائها على بعض معدات الجيش، أعلن قادة الجيش في بيان تأييدهم للثورة، لكن ذلك لم يشفع لهم فقد سادت حالة من عدم الثقة في الجيش لدى الخميني ومساعديه. فقد اعتبروه أحد المتربّصين بالثورة فشهدت أوّل شهور قيام الثورة موجات متتالية من التطهير شملت 40 في المئة من قادة أفرع القوات المسلحة، وعمليات إعدام بعد ذلك بشهور أيضا لمجموعات من الضباط اتهموا بالإعداد لمحاولة انقلاب ضد الثورة. وقام الخميني بخلق جهاز عسكري منافس للجيش النظامي وموالٍ بشكل مطلق للثورة وقادتها وهو “الحرس الثوري”. وقام الخميني بحركة ذكية للتخلص من الجيش وإحلال الحرس الثوري مكانه في زجه في حرب مع جارته العراق لعدة سنوات ليهلك في هذه الحرب من تبقّى من الجيش النظامي القديم، بينما كان الحرس الثوري يمد نفوذه داخليا من خلال تشكيله للقوات جوية وبحرية هذا بالإضافة للقوة البرية.
ثالثا: المؤسسات التي هدمتها الثورة
كان على رأسها كل المؤسسات الشرطية والمخابراتية والعسكرية والفنية التي كانت تتبع للقصر البهلوي وعلى رأسها جهاز “السافاك” الذي كان موكلا إليه مهمة الاغتيالات والاعتقالات والإخفاء القسري وحماية الإمبراطور وعائلته بالإضافة إلى إصدار قانون بمصادرة المؤسسات الإقتصادية التابعة للنظام القديم.
الهوامش:
(1)- الأزمة الكبرى التي أدت إلى انشقاقات كبرى في المذهب الشيعي وولادة مذهب الإثني عشر هي موت الإمام الحسن العسكري بدون وجود ابن له. كان التشيع يقوم على وراثة الإمام من الموصى له وهو أكبر أبناءه الذكور، لكن البعض زعم وجود ابن غائب للحسن العسكري كان قد أخفاه في سمراء خوفا عليه من أن يقتله بنو العباس. المزيد هنا
(2)-كتاب الحكومة الاسلامية هو أحد مؤلفات الخميني التي صارت مرجعا للثورة الإيرانية فيما بعد
(3)- البازار : وهو أكبر سوق في القسم الجنوبي للعاصمة الإيرانية ظهرت منذ أكثر من أربع قرون
(4)-أنظر المواد 82 و83 من الدستور الإيراني
(5)-القجار: هم إحدى القبائل التركمانية التي حكمت إيران من 1779 حتى 1925
اضف تعليق