حين أسألك عن أفغانستان، ماذا سيحضرك مباشرة؟
الحركات الإسلامية المسلّحة مثل “طالبان”، “تنظيم القاعدة” ومشاهير قادتها “أسامة بن لادن” و”الملا عمر” أو ربّما “الشادور”، ذلك الرداء البشع بلونه الأزرق الكئيب الذي يغطي نساء البلاد من الرأس حتى أخمص القدمين. وقد يكون الإلمام أكثر فتذكر حكم الشاه ومن بعده دخول السوفييت البلاد وصعود الإسلاميين المسلحين ودخول أمريكا على الخط والحرب على الإرهاب، ولعلّ الاطّلاع أكثر قليلا في علاقة دائما -غالبا- بالبؤس، فتخطرك تجارة المخدرات التي تنتشر في البلاد والعمليات التفجيرية والعمليات العسكرية -كلّ يواجه الآخر-، وربما أيضا الرئيس المنتخب بعد اندحار طالبان “قرضاي” أو “كرزاي”.. أراهن بنسبة تقارب التسعين بالمئة، أنّ هذا ما سيحضر في ذهن من يبلغه السؤال ما لم يكن قد بحث في تاريخ البلد وجغرافيته، حضارته وفنونه وآدابه.
شخصيا، كان هذا حتّى زمن غير بعيد جلّ ما أعرف عن أفغانستان، مع بعض تفاصيل الجغرافيا في علاقة بالموقع على الخريطة ودول الجوار، لكنّي وجدت أفغانستان أخرى أجهلها حين قرأت للأديب الأفغاني/الأمريكي خالد حسيني.
خالد حسيني
كاتب وطبيب أفغاني أمريكي من مواليد كابل، أفغانستان سنة 1965. تنقّل بين إيران وأفغانستان وفرنسا ليستقرّ في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية. فقد انتقل رفقة عائلته إلى طهران سنة 1970، إذ كان والده يعمل في السفارة الأفغانية في طهران ليعودوا إلى كابل بعد ثلاثة سنوات. سنة 1976، انتقلت العائلة إلى باريس مجددا بسبب عمل الأبلكنّها لم تستطع العودة لأفغانستان بسبب دخول السوفييت للبلاد فطلبت اللجوء السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية. درس خالد حسيني علم الأحياء ثمّ الطب وتحصّل على الدكتوراع فيه سنة 1993 من جامعة كاليفورنيا. مارس المهنة لعشر سنوات حتى عام ونصف بعد إصدار أوّل رواياته، عداء الطائرة الورقية.
خالد حسيني مبعوث النوايا الحسنة للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة. تركّز عمله خاصة على أفغانستان من خلال مؤسسة خالد حسيني التي جاءته فكرة تأسيسها إثر رحلة لأفغانستان سنة 2007 خلال رحلة عمل مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. يعيش في ولاية كاليفورنيا الشمالية مع زوجته رويا وطفليهما.
أسرد سيرة الكاتب لأنّ القارئ سيلمس آثار تنقّله وتجاربه في العمل الإنساني في أعماله. ولعلّ هذين التفصيلين إضافة لكونه أفغانيا جدّا، ما جعل رواياته إنسانية تخاطب الإنسان فينا وتدعونا لنرى جزءا من العالم غير منفصل عنه ويكاد يكون منفصلا لأسباب عديدة. أعمال حسيني ثلاثة باللغة الإنجليزية، حققت مبيعات ضخمة وحصدت جوائز وتُرجمت للغات عدّة منها العربية. في ما يلي قراءتي الخاصة أو ما خطرني بعد قراءة اثنين منها، علما وأنّ رابطا خفيّا يجمع بينها أو هو جليّ وملموس خاصّة لقارئ منتبه حاضر الذهن والوجدان، والوجدان خاصة.
عداء الطائرة الورقية
“لأجلك ألف مرّة وأكثر”، كان هذا وعد حسن لصديقه أمير.
هذا العمل الثّالث الذي يأخذني إلى آسيا الوسطى. قرأت رواية “قمر على سمرقند” لمحمد المنسي قنديل. وشاهدت الفيلم الإيراني “رجم ثريّا-the stoning of Soraya”. هذا الجزء من العالم على قسوته جميل ومفعم بالحياة وبحبّ الحياة. هذا الجزء من العالم لا يتكلّم لغتي ربّما، لكنّي شعرت بالانتماء.
ستبقى هذه الرواية للأفغاني خالد حسيني، إلى أن أموت من أجمل ما قرأت ومن أكثره إنسانيّة. وهذا ما يهمّني حين أقرأ. كنت قد شاهدت الفيلم منذ نحو سنة تقريبا ولامس قلبي بشدّة، حتّى أنّي بكيت عند نهايته. لكنّ تفاصيل الرّواية أجمل. كما أنّ المميّز في الرّواية عن الفيلم أنّها تمنحك فرصة تخيّل المشاهد والصّور والأحداث على عكس الفيلم الذي يقدّم لك رؤية المخرج أو السيناريست للنصّ الأصلي. أنا أحبّ هذي الثّنائيّة، أن أقرأ الرّواية وأشاهد النصّ المنبثق عنها. وأستمتع جدّا باكتشاف تفاصيل يغفلها المخرج أو يتخلّى عنها. ليبقى النّص المقروء مفضّلي دائما مهما علا شأن العمل السينيمائي. أعدكَ كقارئ أنّ خيالك سيخلق مشاهده الخاصة لأحداث الرواية بدون إجهاد. فالرواية واقعيّة إنسانية، بعيدة كلّ البعد عن أية تعقيدات فلسفيّة أو سيكولوجية وإن كانت لا تخلو تماما من الاثنين.
حسن وأمير، اسمان سيعلقان بذهن من يقرأ الرواية، حسن وأمير الطفلان اللذان وإن كبرا خلال الأحداث، فلن يكبرا عند انتهائك من الرواية. حسن وأمير الأفغانيان وطائرتهما الورقية، ثلاثتهم أبطال الرواية. رافقني الثلاثة شخصيا زمنا بعد القراءة ولا أزال أستحضر الطفلين الراكضين خلف طائرة الورق في سباق هو تقليد أفغاني جدّ مميّز يقام في كابول في العيد. بالتوازي يكبر طفل ثالث -أكبر ربّما- اسمه “آصف”، تتقاطع طرق الأطفال كما تقاطعت خيوط طائرتهم الورقية. وكما سقطت طائرات ورق هشّة، ستكسر أرواح طيّبة وتُنثر صواريخ وقنابل قاتلة. وتمتدّ أياد سوداء لا فقط لتنال من بهجة طيران الورق بل ومن كرامة بشر وحضارة بلد.
رغم كلّ الوجع الإنساني الذي يعصر الروح في الرواية، فإنّ طائرات الورق والبالونات وإن غابت عن سماء كابول لا تموت، فقد حلّقت طائرة الورق الأفغانية بيد “سوهراب” وأمير في سماء أمريكا. كما ضحكات الأطفال لا تقتلها الحرب ولا الفقر ولا اليتم ولا التشرد. بطرقهم السحرية يجد الأطفال دائما طريقة للفرح. لكل أمير وحسن في العالم، لا تتخلّوا عن طياراتكم الورقية وبالوناتكم. وإن عدمتم وسيلة، لا تكفوا عن الضحك.
ألف شمس مشرقة
لا أحد يستطيع أن يعد الأقمار التي تشع على أسطحها
أو الألف شمس مشرقة التي تختبئ خلف جدرانهاعن كابول، لصايب-إي-تبريزي
القرن السابع عشر
ترك خالد حسيني الأمل محلّقا معلّقا في طائرة سوهراب الورقية، ليحط ويزرع وينمو في رحم ليلى في انتظار إشراقه وليدا يدرج ويشب ويكبر. أمل غذّته دماء مريم الثائرة وساق طارق المقطوعة وكتب حكيم المحترقة وكلّ ضحايا ومفقودي أفغانستان منذ دخلها السوفييت حتى شبه سقوط طالبان.
في الرواية ستتعرّف إلى الباشتون والطاجيك والهازارا، وهذي قبائل أفغانية إن كانت المرّة الأولى التي تصادف الأسماء. غير أنّ حسيني لا يكتب عن كلّ منها بل عنهم جميعا، الأفغانيون الذين كنت أجهلهم. اكتشفت معه أفغانستان الحقيقية. ليست أفغانستان كابول وطالبان وبن لادن والملالي والنقاب والكبت والتخلف. كل هذي قشور تخفي الوجه الحقيقي لبلد ثريّ الحضارة وبديع الطبيعة غير أنّ الجراح أثكلت روحه والجسد. كأنّهم يغارون من الثراء والجمال والبساطة فيغزون مواطنها.
ألف شمس مشرقة، أفغانستان، مع امرأتين صلبتين رغم كل محاولات الكسر والتكسير. نرافق طفولتهما والشباب ونشهد إعدام إحداهما ثمنا لتحرّر الأخرى وإنقاذا لطفلين هما الغد. وجدتني مع مريم جو ومأساة كونها قبل كل آلام أفغانستان، “ابنة حرام” وليلى التي كانت حلم أبيها وصديقاتها قبل أن تتساقط الأحلام وعزيزة الطفلة التي ولدت في عزّ القهر وصمدت حتى بدا نور الفجر بينا من بعيد.
بعد عداء الطائرة برجالاتها، أنصف حسيني “النساءات” باعتزاز. رواية إنسانية وتجربة قراءة عميقة.
اضف تعليق