خطوات متأنية، بل متثاقلة.. ثقيلة. تفكّر، الأفكار تتدافع في ذهنها، تركض تتراكض. تخلق صداعا يدق رأسها، مطارق. تأخذها قدماها لمحلّ، تدخل، تشتري حلوى، فمحلّ ثاني، وحلوى أخرى، وصنف آخر. هذا الغياب يجب أن يُحلّى. مرار البعد، احتملته. أمّا ومع البعد، غياب، فيلزمه حلوى وحلويّات ليذهب بعضه.
الريق يجفّ كلّما زاد تدافع الأفكار والخواطر ترغب في الخروج.. تنفيس، لكنّها مطبقة فكّيها بشدّة، زامّة شفتيها. لم توزّع ابتسامها والأسنان كما اعتادت إذا تقاطعت نظراتها مع نظرات طفل ظريف أو رجل منغمس في عمل أو صادفت مشهدا لفتها في الطريق الذي ظنّت أنها حفظت معالمه وتفاصيله. الجو حارّ والحرارة في كلّ جسدها، والحريق الكبير في صدرها. في العادة، يترافق تفكيرها مع احتراق خلاياها الرمادية حتى أنّها تتخيّل سحب دخان فوق رأسها ترافقها في سيرها مع رائحة “شياط”، أمّا هذه المرّة، فالدم بين رئتيها وقلبها وكلّها حِمم.
وصلت بقرار مسبق، النوم. لم يخيّبها النوم سبيلا للنسيان أو التناسي الظرفي. ونامت. منذ يومين، جسّدت مشهد حب رائع. كانت بطلته التي لا يطول بيده. لم يستطع شيئا، غير قوله :” أحبك.” فاجأته وأسعدته المفاجأة. وسعادته هذه كانت من الأشياء القليلة التي لا تزال تجعل قلبها يرقص. “هذي أنا، فقط جِد لنا عود ثقاب، ولا عليك!” لم يحتجه حتّى لتغمر عيناه دهشة وفرح.. ورغبة. كانت تقول في سرّها: “هذي أنا، عيناي أكثر اتساعا وشوقا من صاحبة الدور الأصلي. لا أخفيك سرّا ولا أمنعك شيئا. خذني، سأنام لأحلم بك.” ونامت لتصحو على “أحبك” تلحقها “أرغبك بشدة”. وبالطبع، يقف الأمر عند التعبير. لا سبل هنا للحب ولا مجال لتحقيق مجرد رغبة بحضن. تَعلّمنا تجميد المشاعر والرغبات.
اليوم، أيضا نامت، بعد أن تأكّدت للمرة العاشرة -ربّما- أنّه بعدُ مع البُعد، غائب. نوم هروب، نوم لجوء لم تضطرّ إليه منذ نحو الثلاثة أشهر. نامت على أمل انطلاق ما تكتمه أحلاما، على أمل أن يكفّ البركان في صدرها عن قذف الحمم، تبرد وتتحجّر وإن خلدت أدلّة. وكما يعرفها المقرّبون، نومها قريب وثقيل. سرعان ما تغرق وتغرق وتغرق. غرقت فعلا ولم يزرها في حلم تمنّته. غرقت لتجد نفسها في كابوس.
صراخ نسائي وعويل واضطراب. “البيت يحترق، بيتنا يحترق. أنجدونا.” هكذا انتشرت النار من أفكارها في رأسها ومشاعرها في صدرها، لتلتهم البيت. يا للفاجعة! يغيب هو فتحترق هي والبيت. هل هذا الرجل تنّين؟!
يد ترجّها وصوت يناديها باسمها. لا يقول حبيبتي، عزيزتي، قلبي.. بل اسمها في أسوأ حالاته. صرخات تنبهها. تفتح عينيها على دخان خانق. ما العمل؟ “لقد أضرمت النار في البيت به. يا للنهاية! سأموت مختنقة، محترقة به ومنه.” ركضت للحمّام، الأقرب للمطبخ حيث بدأ الحريق. ألأنّها تحبّ الطعام ، يبدأ الحريق بما تحب أكثر في البيت؟ احضري يا دروس الاسعاف والحماية!” وبعد؟ تشد خرطوم “الشطافة” لترش الماء على النار، لكن الخرطوم قصير. “تمدّد أيها الخرطوم! تمدّد.” ولا يتمدد.
سطل الممسحة، مليء بالماء. عندهم في البيت مهووسة نظافة وتلميع. الشكر للمهووسين. هووب تدلق السطل بمائه وممسحته على غاز الطبخ المشتعل. الدخان يخنق ويحرق العيون، لا يزال يتصاعد. يبدو أنّ حرائقك، لا تنطفئ بيُسر. قاسِ في برودك والحريق، ومضنٍ. عندهم في البيت مهووسة توقِّ واستعداد مسبق لانقطاع ماء او كهرباء. وبناء عليه، سطل ماء كبير موجود دائما في ركن الحمام مملوء ماء. تجرّ السطل الثقيل.. هووب تنزلق وتنهض.. تجرّه مجدّدا وتنزلق مرة أخرى.. لكنّها وصلت في النهاية ودلقت منه على نار الحريق وانزلقت لتتبلل أكثر. جميل أن نسقط في سبيل الحياة، لا أن ننهض. المعادلات المعهودة ليست ثابتة.
انطفأ الحريق وانقشع الدخان، وتراكضت أرجل كثيرة: ثقيلة ببوطات ومرتبكة حافية ومسرعة تجرّ ما اتفق. انزوت عند ظلفة الباب تراقب المشهد. شتان بين مشهد ومشهد. ماذا كان ليقول؟ “أحبك، أرغبك؟” “كدت حبّا أقتلك؟”. الحريق في عينيها كان ملحّا، إنها بحاجة كبيرة لحضن يحتويها وكتف تبلّله. كابرت وكابرت وتجاهلت حديثا عن شجاعتها وضحكت منه. عليها ربّما أن تقتنع أنّها لا بأس بها، قويّة وأنّ كلّ ما عليها هو أن تواصل سيرها قدما وتفتح صدرها للمزيد من هواء الحياة. يظلّ السؤال عالقا بحلقها، حتى يعود، “ماذا كان ليقول أو يشعر إذا ما عرف أنّها قد التهمتها النيران؟” كانت لتكون نهاية تراجيدية رائعة للقصة، لكن القدر يشاء للأحداث أن تتواصل.
- الصورة المرافقة: لوحة الرسام KRISTOFFER ZETTERSTRAND بعنوان “Set on fire”
اضف تعليق