(لِبْلاد) .. بهذه الكلمة المتأرجحة بين الفصحى والعاميّة، المعلّقة بين سقف الحلق وغيمة الدمع، كان أجدادنا يشيرون إلى (البِلاد) التي غادروها ولم تغادرهم، على هذه الكلمة المنحوتة من الوجع غفا اللاجئون واستيقظوا، شربوا القهوة ودخّنوا وأفطروا وتغذّوا وتعشّوا وصلّوا وصاموا وناموا وقاموا وتناسلوا وماتوا. (لِبلاد) .. لفظةٌ تعرفنا ونعرفها، تحبّنا ونحبّها، أغنيةٌ عذبةُ الإيقاع تُعزف على أوتار الحنين، وأكاد أقسمُ أنّه لا يوجد لاجئٌ في المعمورة وتحتها إلّا وطرقت هذه الكلمة مسامعه مرارا وهو ينصت بقلبه قبل أذنيه إلى أحاديث جدّه وجدّته وأبيه وأمّه وختايرة وعجايز المخيّمات والشتات.
أهلنا الذين كان حلم العودة شغلهم الشاغل، نحتوا من كلمة (البِلاد) الجامدة الباردة كلمة جديدةً متحرّكةً دافئة، تتحرّك صعودا مع تسارع خفقات قلوبهم إذا ذكروا الحواكير والبيّارات والبيادر، ونزولا مع خفض أصواتهم وهم يغصّون بوصف تغريبتهم الطويلة، ومعاناتهم النفسيّة والجسديّة في الشهور والسنوات الأولى من إقامتهم في (بِلاد) اللجوء.
أهلنا الذين لم يملكوا ترف الوقت لفصاحة اللسان، رموا رفاهيّة اللغة وراء ظهورهم، ووضعوا قلوبهم مكان ألسنتهم واجترحوا لنا هذه الكلمة العجيبة، تخلّوا عن الألف المنتصبة الممدودة إلى أعلى التي كانت تقف كالشوكة في حلوقهم تحول بينهم وبين نشيج الكلام، وكسروا اللام الساكنة بما يتواءم مع خيبتهم وانكسارات نكبتهم، وأنزلوها غصبا عن عرشها إلى مهاوي دموعهم، وسكّنوا الباء بإطباق الشفتين كما لو أنّهم كانوا خائفين على الذكريات أن تنزلق من أفواههم إلى حيث يصعب لملمتُها، وأطلقوا اللام والألف تنهيدة وجدٍ تسافر بهم ملهوفين من شتاتهم إلى قراهم ومدنهم المضيّعة، ثمّ ختموها بالعضّ على الدال وحبسها بين الأسنان المطبقة على اللسان، مطبقين بذلك على حسراتهم التي لقّمونا إيّاها لقمةً لقمة، وسقونا إيّاها قطرة قطرة، مطلقين زفرة خفيفة بعد ذلك لو قُيّضَ لها أن تجتمع كلّها في وقتٍ واحد لصارت ريحا لا تُبقي ولا تَذَر.
(لِبْلاد) .. شربتها من عيني جدّي الذي أغمضهما بها عليها، وسرقتها من حلم جدّتي وأنا نائمٌ في حضنها على جاعد العيد، ورضعتها قبلا مع حليب أمّي في بركس مخيّم العائدين في حمص، وحمّلني إيّاها والدي أمانة ثقيلةً قبل أن يرحل في مخيّم اليرموك.
(لِبْلاد) .. ألقمتها لعاطف وماهر منذ ولادتهما، وصدحتُ بها مع الآذان في أذن فارس اليمنى لحظة ولادته في غلاسكو وأنا أشدّ على يدي لميس وهي ترضعه حليب صدرها على لحنها الشجي، ليرفعها شارة نصرٍ وهو يقف على أطلال بيتنا في الشجرة.
(لِبْلاد) .. سيمفونيّة موسيقيّة متكاملة تحفظها أجيال اللاجئين في جهات العالم الألف، لتعيد عزفها يوما، هناك.
لِـ
بْـ
لـ
اااااااا
دْ
.
- الصورة المرافقة للمصور الفوتوغرافي الفلسطيني فادي عميرة، من قرية تعنك الكنعانية الواقعة شمال غرب جنين/فلسطين بتاريخ 4\3\2016
اضف تعليق