ثم أرحلُ مع شروق الشمس حرًا ..
بهذه الكلمات الملهمة والمثيرة اختُتمت رواية الكاتب المصري يوسف زيدان، عزازيل ، ولعلّها تحمل الكثير من المعاني المتدفّقة التي تعالجها، إنّ أغلب الظّنون التي قد تتوارد إلى ذهن القارئ وهو يقرأ آخر كلمة: “حرًّا”، أنّ هيبا قد أدرك طبيعته الإنسانية المزدوجة، الروحية والجسدية. وأيقن بضرورة الإيمان، ليس الإيمان الأعمى الذي تقرّره المجامع الكنسية، بل الإيمان الحرّ الذي يهتدي إليه إنسان أعمل عقله وقادته روحه إلى منبع الأنوار الإلهية بعد تجربة صادقة وسعي حثيث.
تعالج الرواية الكثير من المعاني الإنسانية المتمثلة في ثالوث الدين والمرأة والفن، موازيـًا للأقانيم المسيحية الثلاثة الأب والابن وروح القدس، إنه الصّليب الخشبي الذي يحمله الإنسان على عاتقه سائرًا في الحياة، الذي يتألم عليه أحيانـًا ويسعد عليه حينـًا، يتألّم لقلقه وأرقه واضطرابه، ويسعد بوعد السماء جزاءً لصبره نعيما مقيما.
الدين:
الدّين الحقيقي الذي يوصل للسّماء، هو دين الفهم للحقائق الإيمانية، دين الصلة برب الأرباب وملك الملوك وخالق الأكوان، دين العبادة والخشوع لممسك الأراضين والسماوات أن تزولا، دين التدبر في جميل صنع الله، دين الإقرار لله بالغلبة والقوة والبطش، دين الحب والسلام والمحبة بين بني الإنسان، دين العقل والقلب والروح ثلاثتهما. وليس دين المجامع الكنسية والسلطات الكهنوتية، والرئاسات اللاهوتية.
المرأة:
المرأة كائن لطيف، إذا صرف الرجل حياته كلّها عنها وانعزل في صومعة بقلب الصحراء. أكسبه ذلك خشونة الطّبع، وفظاظة النظر، وقلّة الحياء، وسماجة الإحساس، وعلى النقيض لو صرف حياته كلّها بين أحضانهن. أكسبه ذلك خنوثة في الحركة، وميوعة في القرار، وسلبه مواهب الرجال، وحزم المقصد، والجد في طلب العلم. “مرتا” لم تكن سوى الوجه الآخر من “أوكتافيا”، غير أن “أوكتافيا” كانت وثنية الطبع ساذجة الإيمان، أمّا “مرتا” فكانت رغم صغر سنّها إلا أنّها كانت ذكيّة في إبراز جمالها والإغراء به. “أوكتافيا” كانت أُمًّـا حنونـًا أمّا “مرتا” فكانت قينة فاتنة الهيئة.
الفن:
“عزازيل” لم يكن إلا حيلة فنية لإيراد الخواطر النفسية والهواجس العقلية لنفس أنهكتها الغربة والتوحّد والتيه في أرض الله. إنّه عين شيطان الفن الذي راود الإنسان الأول بكهفه، فأغراه برسم الحيوانات على جدر الكهوف، ليخلد تاريخه، ليثبت وجوده على أوراق يسطرها بعذاباته، ليحقّق خلوده على أرض الفناء.
اكتب يا هيبا فإنّ من يكتب لن يموت
وعد الشّيطان الملعون بالخلود، كما وعد أبويه من ذي قبل وعد الغرور، ولكن أ حقًّـا نحن نكره الشيطان تلك الكراهية التي تبعدنا عنه مبعد المشرق والمغرب؟ إنّه فينا، إنّه قريننا، معنا، أو كما قال العقّاد –رحمه الله– في أول كتابه إبليس:” يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير، فقد كانت معرفة الشيطان فاتحة التمييز بين الخير والشرّ، ولم يكن بين الخير والشرّ من تمييز قبل أن يعرف الشيطان بصفاته وأعماله وضروب قدرته وخفايا مقصده ونياته”
هيبا (الإنسان):
لم يكن “هيبا” إلّا شخصا تتمزّق أفكاره بين الثّالوث المذكور أعلاه، هو إنسان جهل طبيعته المزدوجة (الروحية، الجسدية). كان يحسب أنّه إذا ركن إلى طبيعة متطرّفة دون أخرى، هدأت نفسه واستقرّت وكانت الحوادث التي تقابله تقول نقيض ذلك، فلما استفاض في رهبانيته وعزلته عن البشر أصابه ذلك بالتوحّد والخوف والألم والنوى، ولمّا أسرف في ملذّاته مع “أوكتافيا” و”مرتا” انسلخ من الإيمان وأفكار الخطية والحساب والعقاب. لم يستطع أن يوازن بين الطّبيعتين، أن يجمع بين امرأة يحبّها وتحبّه، وإلهٍ يعبده مخلصـًا خاشعـًا له ليلا نهارًا. حسب أنّ المرأة غاوية آدم، وعزازيل من ورائها نقيض الله ونقيض كل خير، فكان صراعـًا بينه وبين نفسه، وبينه وبين العالم.
لغة الرواية وتقنيتها:
تتمتّع لغة الرّواية بالشّاعرية والعذوبة والاسترسال الأخّاذ في الوصف والتّصوير. وتتجسّد عبقريّة الكاتب في استخدام لغة سهلة وابتعاده عن الغريب من الألفاظ لبناء جملة جميلة لطيفة، يفهمها القارئ ويشعر بالمعاني الخفيّة المتولّدة التي تحملها.