عندما تطرق مسامع أحدنا عبارة “المافيا”، تتبادر إلى ذهنه تلقائيا صورة تلك الموجودة في إيطاليا ثم تتوالى بعدها صور نظيراتها في الإجرام في كل من كولومبيا والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، لكن الأولى تتميّز عن شقيقاتها الأخرى بماضيها النضالي المجيد في مدينتي “باليرمو” و”نابولي” تحديدا ضد الغزو الفرنسي في القرن الثالث عشر للأراضي الصقلية، في السردية المافيوزية المشهورة عند قيام أحد الجنود الفرنسيين باختطاف فتاة صقلية ليلة زفافها وهتك عرضها مما أشعل ثورة حقيقية في كافة أنحاء إيطاليا كانت من أسباب دحر الفرنسيس.
بعد ذلك، حصل انهيار للحكم الإستعماري الفرنسي، ومظاهر سلطته مما دفع العائلات النبيلة الإيطالية للاستعانة برجال المافيا لحماية مزارعهم وتأمين أنفسهم، لكن بعد سنوات حاصرت المافيا هذه العائلات، وأجبرتها على بيع أملاكها لبارونات المافيا الذين شكّلوا طبقة جديدة ومؤثّرة في النسيج الإيطالي.
كيف رأى بيجوفيتش تحولات المافيا الإيطالية ؟
يُعَدّ المفكر والرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيجوفيتش خير من فكّك هذه الظاهرة التاريخية في كتابه الرائع هروبي إلى الحرية حيث قال في تحليله لميلاد المافيا الإيطالية ومسيرتها “إنّ سنوات مقاومتها ساعدت على إكسابها هالة وطنية واضحة وصورة رومانتيكية لدى الشعب، ولكن في وقت لاحق، انفصلت طبقة من الأثرياء داخل المافيا -كما يحدث مع أي قوة بلا قيادة توجّهها-، وتركّزت السلطة بشكل متزايد في يد هذه الطبقة تحت شعار الكفاح ضد الأجانب (1).”
مع هذا كلّه، يرى بيجوفيتش أن قوانين المافيا ظلت ثابتة من حيث: معاداة السلطة، الفصل الاجتماعي الواضح بين الأقوياء داخل المافيا والتابعين لهم كنوع من التراتبية الاجتماعية، وكذلك التّداول على السلطة بين العشائر المافيوزية.
دور حقبة الحربين في تطور المافيا الإيطالية
نقصد بها الحربيين العالميتين التين وقعتا في بداية القرن المنصرم بين دول العالم المتمدن بعضها البعض، وكانت إيطاليا بالطبع جزء من هذه الحرب المجنونة. استثمرت المافيا القدرات البشرية للجنود الفارين من الحرب حيث قامت بإحلالهم في مجتمعاتها، واستفادت من خبراتهم وانتقلت من عهد الهواة إلى عصر المحترفين، حيث كان بحوزتها عدد من الأشخاص ذوي الخبرة القتالية من جنود الجيش وعناصر الشرطة.
بعدها بسنوات قليلة وقعت الحرب العالمية الثانية والتي شكلت قفزة نوعية في علاقة المافيا بالدولة والمجتمع الإيطالي. مع زحف جيوش الحلفاء، انهار تحالف (هتلر- موسوليني)، ودكت إيطاليا بالطّيران ممّا خلق مجتمعا معوزا ودولة منهارة. فقامت المافيا بدور وطني آخر وهو توفير إعانات مالية وغذائية لكافة سكّان إيطاليا في تلك الأيام البالغة السوء. وصارت النظرة العامة لرجال المافيا وزعمائها أنهم جزء أصيل من المجتمع الصقلي الكبير.
-يتبع-
الهوامش
(1) – علي عزت بيجوفيتش، هروبي إلى الحرية ، ترجمة: محمد عبد الرؤوف
- الصورة المرافقة: لوحة “I Vespri Sicilianiحرب صلاة الغروب الصقلية” 1864-1865 لميشال رابيساردي/Michele Rapisardi
اضف تعليق