في طفولتي، يا الله، كنت أريد أن تعطيني نقودا كثيرة لأشتري الكثير من الكتب فلا أضطرّ للمبادلة والاقتراض في العطل الدراسية ممن يملكون مكتبات عامرة، وسراويل كثيرة لألبس واحدا كلّ يومين دون أن يبهت لونها، ومعطفا زهريّا موشّى بالورود كمعطف صديقتي الذي تعلّقت به عيناي وأنا خلف أبي على الدراجة في الطريق للمدرسة بعد عطلة العيد، وبوطا بلاستيكيا -أزرق ربّما- لأخوض به في وحل طريق قريتنا شتاء وأضرب به ابن جيراننا فأوجعه حين يسخر من الفتيات المسالمات ويدفعهنّ ليسقطن في الغدير. كنت طفلة بريئة.
في سنين مراهقتي، كنت يا الله أريد أن لا تجعل أبي منظّف المدرسة بعدُ، وهو يعرف أكثر مما يعرف معلّم الصّفّ الرابع، ولا تغرق أمّي في تنظيف زرائب الحيوانات وأقفاص الدواجن كلّ أسبوع وهي التي كانت مدلّلة أبيها وألمع من كلّ إخوتها الموظّفين -اليوم- وأترابها، ولا تعاني جدّتي من أمراض عديدة مزمنة لا أفهم كيف تمكّنت منها مرّة واحدة وهي التي قضت شبابها تشقى وتكدح لتعيل عشرة أطفال، ولا تعود أختي باكية من المدرسة لأنّ زميلها الذي تتفوّق عليه يفاخرها بأنّ أباه طبيب، ولا يتظاهر مدرّس الرياضيات الجشع الذي يعطي الدروس الخصوصية في “جراجات” البيوت بالشفقة عليّ ويعفيني من دفع معلوم دروس التدارك في المعهد. كنت فتاة غاضبة.
في العشرينات من عمري، كنت أريد يا الله أن تمنحني حبيبا أترافق وإياه دائما وإلى الأبد برأسين وقلبين متقاربين، وتجعلني أفوز في مباريات كرة القدم واليد ومسابقة الرسم والعرض المسرحيّ، وتديم صخبي النهاري وأصدقائي فلا ينقطع إلّا ليتواصل ليلا في سهرات المبيت الجامعيّ، وتوفّقني في دراستي فلا أتوقّف أبدا عن إحراز النتائج الجيّدة وأصبح ما أريد وما يراني أبي، وتدلّني لسبيل تنظيم تحرّريّ فيه إخوة ورفاق بعيدا عن عنتريات اتحاد الطلبة ومنتسبيه الذين يغلب عليهم الفشل الدراسي. كنت شابة طموحة.
وأنا على مشارف السنة الثانية من عقدي الثالث، لا أزال أريد يا الله، حبيبا يرافقني دائما وإلى الأبد برأس وقلب يقارب رأسي وقلبي. رغم أنّي بتّ أحظى بلقب “عانس” منحني إيّاه المجتمع. لم تحقّق لي الكثير مما أردت لكنّك، كنت كريما معي في أوقات لم أتوقّع أن تحضر يدك فيها برفق. منحتني أصدقاء رائعين ألمسهم وألمس أرواح بعضهم، لا تباعد بيني وبينهم رجاء. أعلم أنّك لا تملك عصا سحريّة كما الجنيّات في أفلام الكرتون التي أهواها، وأنّ عليّ أن أقضي أيّامي في الرّكض خلف أحلامي لعلّي أمسك بتلابيب حلم أو اثنين على أقصى تقدير.
ما عدت يا الله أريد فوزا أو تفوّقا، مُنيت بـ”فشلات” عديدة في ميادين عدّة، مباراة كرة القدم الوحيدة التي لعبتها عدت منها بدموع على خدّي لأنّي أضعت ركلة جزاء فانهزم فريقي. ربّما كانت أفضل من مباراة كرة اليد التي عدت منها بتمزّق الأربطة لأصعد السلالم على ظهر صديقتي تقريبا، حتى بلغنا غرفتنا في المبيت. تلك الغرفة التي اخترناها قريبة من السطح لأنّنا نريد الكثير من الهواء لصدورنا التي تضيق بما حولها. لم أحظَ بسرير إلّا في تلك السنين، لتأخذه منّي وتعيده لي بعد وفاة جدّتي، وكأنّك تقول لي “لا شيء مجانا، كلّه بمقابل!”
لم أعد أريد سراويل ومعطفا زهريا وبوطا ولا كتبا كثيرة حتّى. ليس عندي نقود كثيرة، فأنا أقتصد بل وأقتّر أحيانا لكي لا أعود بعد ثلاث سنوات لأطلب مالا من أبي. اكتشفت يا الله مكانا عظيما يسمّى “البالة” أو “الروبافيكيا”، تباع فيه الملابس المستعملة من كلّ أنحاء العالم والأحذية والبوطات والحقائب وبعض الكتب أيضا. هناك أيضا اكتشاف آخر رائع اسمه PDF، اخترعوا قبله الانترنت فكفاني كلاهما شرّ الحاجة للغير واقتراض الكتب أو التنقل لوسط المدينة والاشتراك في المكتبة التي لا يبلغها الجديد إلّا بعد زمن. ألغيت أساسا فكرة الكتب الكثيرة، لن أضع مالي في كتب أكتنزها لنفسي ويسكنها العثّ.
أرجو يا الله أن لا تغضب مني حين أطلب في لحظات الغضب القيامة للكلّ أو الموت لي، أنت تعلم أنّني كائن انفعاليّ بكّاء. وإنّي أقدّر العالم الغنيّ بالتفاصيل الذي منحتنا غير أنّ أكثرنا حمقى ومغيّبون وتجّار دم. لا تُلق بالا للحمقى الذين تكاثروا في زمن القار هذا ليعلّقوا عليك خطاياهم في حقّ أنفسهم والبشر، لا يد لك في الدم والدمار والسواد الذي يعمّ أماكن كثيرة في الأرض. لم نكن بحجم العظمة التي أردتها لنا. تخلّينا ورمينا التهم على كاهلك حين غلبَنا ضعفنا وركننا للتواكل.
ختاما، لا ترفع يا الله كفّك الحانية عن كتفي. إنّي كثيرا ما أشعر بالوحدة والخوف فأبكي سرّا -وحدي- لأُبلغك صوتي.
اضف تعليق