قبل يومين، شعرت بالانتماء إلى النّرويج والرّغبة في البقاء فيها والتعرّف على طفلتي وهي تكبر تحت ثلجها ومطرها. الشعور بالانتماء شيء غريب وهو شعور لم يتملّكني منذ سنوات طويلة حتى إنني لا أتذكّر آخر مرة انتابني فيها ولا أتذكّر طعمه أو لونه لكنّه هذه المرة كان عذبا جدا.
كنت قد دعوت جارنا الجديد مع زوجته إلى الغداء لكنّه أخبرني أنّ زوجته سافرت لزيارة والدها فقلت له أنّنا نتمنّى قضاء الوقت معه والترفيه عنه في وحدته. جاء في الموعد المحدّد ثمّ وقفنا سوية لتحضير الطعام على النار في الحديقة ودخلنا إلى البيت ثم أكلنا ونحن واقفون لأننا لم ننقل أثاث بيتنا بعد. بعد حوار شيق عن الأشجار التي تحيط البيت وكيف تأتي السناجب وتتسلّق إلى أعلى الشّجرة لتجلس وتتمتّع على ضوء الشّمس. قال جارنا إن هذا الشّارع من الشوارع القديمة في المدينة والبيت الذي اشتريناه أحدث البيوت رغم أنّه بُني في عام أربعة وستين.
سألته زوجتي عن أقدم بيت في الشارع فقال: “لماذا لا نقف في الحديقة وسأخبركم عن تاريخ البيوت وساكنيها.” وحين نزلنا، أشار إلى بيت أبيض وقال: “هذا أقدم بيت. ومن يسكنه اليوم رجل أكمل مائة عام. كان يعمل في إدارة السكة الحديد. ثمّ تقاعد وهو في الستين من عمره. حين التقيته آخر مرة قال أنّه سيكون حاملا الرقم القياسي في سنوات التقاعد لأنّه متقاعد منذ أربعين عام.”
البيت المقابل لبيتنا كان ملكا لرجل إطفاء، ابنه هو الاخر رجل إطفاء، لكنهم انتقلوا من البيت واشتراه أستاذ موسيقى مع زوجته وهي أيضا موسيقية. تنقّل جاري بين تاريخ البيوت ومن كان يسكنها في السابق ومن يسكنها اليوم ودرجة علاقته بكلّ عائلة وفرد. واعترض على أحد الجيران قائلا :”إنّهم كانوا يحتفلون إلى ما بعد منتصف الليل ويتسبّبون بالإزعاج والضوضاء، لكنهم رزقوا بطفل وتوقفوا عن احتفالاتهم.”
قصة شارع واحد مع محبة الجار الذي سردها لنا جعلتني أشعر بالانتماء وأفهم أنّنا حين ننتمي فنحن ننتمي إلى أجزاء صغيرة جدّا من المجتمع والبلد: ننتمي إلى جار طيب وشارع نحبّه وصديق يسامرنا وزوج يحبّنا وطفلة تشاركنا حياتها ومسؤول عمل منصف. هذا هو الشعور بالانتماء .
في الأمس وأنا أكلّم صديقة في بغداد قالت:” لم يبقَ من صديقاتي أحد، فكلّهن هاجرن ولم تبقَ لديّ جارة تزورني. أولادي تركوا العراق وشوارع المدينة مقفلة والتنقل من منطقة إلى أخرى مخاطرة.” هكذا وبكلّ بساطة انتهى شعور صديقتي التي قاربت الستين من عمرها -وهي ابنة بغداد- بالانتماء إلى مدينتها لأن تلك العلاقات الصغيرة والقريبة انتهت. هذا ما تفعله الحروب وما يفعله الطغاة. إنّهم يقتلون فينا الشعور بالانتماء .
حين كنت طفلا علّمتني مدرستي أنّ الوطنية هي الموت في سبيل الوطن لكنّني سوف أعلّم ابنتي أنّ الوطنية هي محبة الشارع والجار والتفاني في إسعاد الأهل والأصدقاء والارتقاء قدر المستطاع بالذات وزرع شجرة في حديقة. سوف أعلّمها أنّ الوطنية الحقيقية لا تقتصر على حدود مكان واحد بل هي خير عالمي وكوني وعابر للأجناس والأنواع.
كانت هذه هي الوطنية في طفولتي فأي طفولة وأيّ وطنية؟
اضف تعليق