أردت أن أكتب عن النكبة، فلم أستطع. لم أجد مدخلا يكون بعيدا عن التأريخ أو استعراض الأحداث. كنت أجمّع الصور وأقرأ هنا وهناك لأجمع مادّة أوّليّة للكتابة، ثمّ تراجعت. شعرت بأنّي غير قادرة بعدُ عن الكتابة في هذا الموضوع. ارتأيت أن أسلك مسلكا آخر، أن أتواصل مع أصدقائي من الفلسطينيين المُهجّرين لأنقل حكايات آبائهم وأجدادهم التي وصلتهم. أردت أن أعرف الحكاية من أشخاص أعرفهم وأن أختبر مدى صحّة ما يردّده الفلسطينيون دائما “لن ننسى ولن نغفر”، فكانت هذه الحكايات.
هكذا أصبحنا لاجئين نسكن المخيم !
محمود: 46 سنة، الزرقاء-عمان/الأردن
أهلي في تلك الفترة انقسموا نصفين، بمعنى جزء من الرجال منهم بقي في البلد والجزء الآخر لجأ مع النساء والأطفال إلى القرى المجاورة والأكثر أمانا. طبعا، بداية اللجوء أهلي كانت إلى قرية قضاء مدينة الخليل اسمها “بيت امر”. وفي تلك الأثناء حدثت مجزرة دير ياسين التي قال عنها رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق مناحيم بيغن:”لولاها ما قامت دولة اسرائيل.” لأنّ معظم سكّان القرى المجاورة وحتّى البعيدة عندما سمعوا عن هول المجزرة تركوا بلادهم هاربين خوفا من القتل والاغتصاب.
بعد ذلك، لجأ أهلي إلى قرية أردنية قرب الحدود على أمل الرجوع بأقرب فرصة اسمها “الكرامة”. ومن ثمّ إلى المخيم ، مخيم الزرقاء القريب من العاصمة عمان. رحلة اللجوء كانت قاسية بتفاصيلها لدرجة أنّ الماء في كثير من الأحيان لم يكن متوفّرا، وقيسي على ذلك كثيرا من المسائل.
طبعا أمي وأبي ماتوا ودُفِنوا في الأردن. إخوتي الأكبر مني التحقوا بالمقاومة أثناء وجودها ببيروت. الأصغر استشهد و دُفن في بيروت، والأكبر كان جريحا ومات سنة 2014. لم نجد له قبرا يؤويه في بيروت التي دافع عنها سنة 1982. أخيرا، حفرنا قبر أخي الشهيد ودفنّاه معه بنفس القبر.
فتحتِ مواجعي يا نهى!
محمد: 36 سنة، شارلوت-كارولينا الشمالية/الولايات المتحدة
حين كبرت وصرت أعي ما معنى “نكبة” ولماذا أعيش بمخيّم وظروف صعبة، سألت جدّي: “لماذا لم تبقَ بأرضك؟” فالكثيرون ظلّوا بأراضيهم وأصبحوا يُسمّون ‘عرب 48’. حكى لي جدّي -الله يرحمه-، ببساطة جاءت أخبار لأهل قريته أنّ القرى التي تجاورهم قد ذبح اليهود أهلها وقتّلوهم. بسبب الخوف ولأنّهم كانوا عزّلا ولا أحد يدافع عنهم، تركوا بيوتهم وأملاكهم وهاجروا لأقرب مكان آمن.
قالت لي جدّتي أنّ اليهود كانوا بطريقه خبيثة يطلقون إشاعات أنّ مجموعات كانت تقتحم البيوت بالمناطق المجاورة وأنّ مذابح كثيرة تحدث. هذه الإشاعات كانت أسهل طريقة اتبعها اليهود لإخراج الناس من بيوتهم ليدخلوا ويحتلّوا مناطق كاملة بجون جهد. كان أهالي يافا واللدّ والرملة من أكثر الناس الذين عانوا خلال الهجرة، حيث خرج معظمهم حفاة، لا يحملون معهم أي شيء. خرجوا بملابسهم التي عليهم فقط، كانوا يعتقدون أن رحلتهم لن تتجاوز يوما أو يومين، ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية مرة أخرى.
ظنّوا أنّهم سيعودون سريعا، لكنهم لم يعودوا. مات جدّي في المخيم ولم يعد.
عبد الله: 20 سنة، غزّة/فلسطين
تقول جدتي:”كنتُ صغيرة جدا لا يتجاوز عمري الأربع سنوات. وأذكرُ جيدا حين مررنا في طريق هجرتنا بواد -وكنتُ قد سمعتُ عن أهالٍ غفلوا عن أبناءهم وراءهم من هولِ الموقف- تمسّكتُ بأبي بشدّة والبكاءُ يملأ عينيَّ وقلتُ له :”يابا ترمينيش في الواد !” رغم كُلّ مرارة التهجير وأخبار القتل، كُنّا نحسبها أيام قلائل وسنعودُ إلى “كرتية” وينتهي كُلّ شيء حتى أنّ الناس في المخيم لم تتوقف عن بيع وشراء الأراضي فيما بينها وكلّهم يقين أنهم عائدون!
حدث هذا حين كانوا يظنّون أنّها أيّام وسيعودون لفلسطين.. ولليوم، وهم ينتظرون!
عمر: 28 سنة، برلين/ألمانيا
أنا أعرف قصة جدي لأبي. فوالده كان عاملا في شركة اتصالات وهواتف حيفا. وكانت عائلته مؤلّفة من خمسة فتيان وثلاث فتيات إحداهنّ وُلدت في عام النكبة فسمّوها “هاجر”. أخ جدّي الكبير من مواليد العشرينيات. كان سائق سيارة إسعاف، وعلى ما يبدو كان له علاقة ما بالثوار. طبعا، تأزّم الحال منذ ما قبل الـ48. شهدت حيفا مثلا إضرابا سنة 1936، وفي الفترات اللاحقة، صارت تشهد الكثير من التفجيرات في الأسواق وبدأت المعركة والحصار.
بقي من العائلة فقط أخ جدّي الأكبر. أمّا باقي أفراد العائلة فقد حاولوا التحرك خارج حيفا، بعد المجازر خوفا على البنات والأطفال. اعتُقِل أخ جدي الأكبر فترة وجيزة إلّا أنّهم سرعان ما أطلقوا سراحه لحسن حظه. هاجرت العائلة من حيفا عبر البحر إلى صور في البداية، ومن ثمّ إلى صيدا وبعدها إلى حمص في سوريا. وفي النهاية، اختار والد جدّي المكوث في حلب بسوريا لأنّه عمل فيها في بدايات القرن ويعرف بعض الناس هناك.
بالبداية لم يضع الناس فواصل بينهم على أمل العودة. وكانوا يحلمون أن جيش الإنقاذ سيفي بوعده وأنّهم بعد أسبوع سيرجعون.
عندما وصلوا، سكنوا بداية في مكان تجميع للاجئين. كانت صالة بلا فواصل بين العائلات باستثناء بعض الأغطية التي علقوها فيما بينهم. يذكر لنا جدي حكاية، أنّهم ما إن نزلوا من القطار القادم من حمص إلى حلب، صادفوا بائع عرق سوس. حين عرف أنهم فلسطينية “شرّبهم كلهم بدون أي مقابل”. وبالعودة إلى الإقامة، مكثوا في مكان التجميع فترة وجيزة لم تتجاوز الأشهر. ثمّ نقلوهم بعدها إلى ثكنة قديمة للجيش الفرنسي قرب مطار النيرب العسكري الآن. كان ثمّة أربع أو خمس مهاجع سقفها من الزنك والصفيح.
كانوا يسمّون المهجع بالـ(البركس). ولم يكن ثمّة فواصل طبعا. بالبداية لم يضع الناس فواصل بينهم على أمل العودة وكانوا يحلمون أن جيش الإنقاذ سيفي بوعده وأنّهم بعد أسبوع سيرجعون. طالت الأسابيع فبدأ الناس ببناء جدران فاصلة بين العوائل. في كلّ المخيم ، كان ثمّة حمّام واحد وحنفية ماء واحدة. اضطر الكبار مثل جدّي للعمل وأرسلوا الأصغر للمدارس. وبالإضافة لجهد الحياة والعمل وبناء الذات والدراسة، التحق جدي وأبناءه بالثورة الفلسطينية، وانضموا تحديدا للجبهة الديموقراطية.
عمر، لاجئ مرّتين، دفعه الوضع في سوريا للمغادرة مثل كثيرين حتّى استقرّ حاليا بألمانيا. تتوزّع عائلته اليوم بين سوريا، ألمانيا، السويد، رومانيا، السعودية، الإمارات والأردن.
الصورة المرافقة للمصوّر الفوتوغرافي الفلسطيني فادي عميرة
اضف تعليق