4- الكوميديا كتنميط بديل
لو قال لك أحدهم: “أنت تشبه وودي آلين قليلا”، فمقولته صياغة لطيفة لـ:”أنت شخص مثقّف، عصابي، غير اجتماعي ومزعج للغاية.”
شاهد وودي آلن في افتتاحية الفيلم
خلال حياته الفنية، أوضح وودي آلين كيف يمكن لبعض الصفات السلبية أن تظهر في جوّ محبّب. قدّم لنا طريقة جديدة، لطيفة ودقيقة في تنميط الناس. ليست مشكلة التنميط في تعميم الأحكام، لكن في كونه يعمم الأحكام بطريقة قاسية وغير عادلة.
لو أحب الأبوان شخصية “كيفن المراهق” لـ”هاري إنفيلد” لأمكنهما الانتقال من الفكرة المذعورة: “لقد تحوّل ابننا لوحش” إلى فكرة أخرى بناءة وأقلّ ذعرًا: “لقد تحوّل ابننا مؤقّتًا إلى كيفن المراهق”. يكسر هذا التّحوّل البؤس والوحدة المحتملين. هذا عكس التنميط السّيّء. الشخصيات البائسة دائمًا ما تشقّ طريقها نحو شفقتنا.
حين تقول أنّ زميلك في العمل يشبه “ديفيد برنت” فأنت هنا تشير إلى هشاشته وعوزه للّباقة. ليس هذا فحسب، أنت أيضًا تشير هنا إلى إخفاقاته المتكررة. لأنّنا نشعر بالشّفقة تجاه “ديفيد برنت” فنحن نرى حساسيّته المفرطة، ا بلاهته فقط. ندرك مع الوقت أنّ خوفه من عدم إعجاب أو احترام المحيطين به هو ما يدفعه للقيام بتلك التصرفات المحرجة.
“لاري ديفيد” بذيء وغاضب دائمًا. وقح ومولع بالشجار مع نُدُل المطاعم. يخوض جدالات ضخمة مع الآخرين في المغاسل. يخبر أصدقاءه بآرائه في زملائهم. يتحدّث بما يدور في رأسه حتى لو كان ما يعتقده لا يصحّ الإفصاح عنه، لكنّه في الوقت ذاته فاتن وناجح للغاية وله ابتسامة ساحرة. يمكنه أيضا أن يكون لطيفًا حين يودّ ذلك. هنا، يعيد “لاري ديفيد” هيكلة نمط “العجوز الفظ” الشهير إلى “العجوز الساحر، الذي يتلفظ بوقاحات أحيانًا”.
شاهد لاري ديفيد يتشاجر مع النادل
الكوميديا هنا ترشدنا إلى تصوّر ألطف عن تلك الشخصيات، وبالتبعية إلى تلك الأجزاء من شخصياتنا أو شخصيّات المحيطين بنا والتي نتقاسم معها نفس الصفات المزعجة. كمجتمع، نحن في حاجة إلى الكثير من هذه الشّخصيات الساخرة لتساعدنا على فهم، ومن ثم، التعامل مع هذا المدى الواسع من الشّخصيات المحيطة بنا.
5- الكوميديا كعلاج للقوة والضعف
تمنحنا مشاهدة صاحب السلطة ساخرًا من نفسه شعورًا بالطمأنينة. أن يسخر الإنسان من نفسه فهذا يعني نوعًا من النضج. هذا يعني أن الشخص مدرك تمامًا لنقائصه وعيوبه، دون أن يستميت دفاعًا عنها. ما يخيفنا في السلطة ليس هو السلطة ذاتها، لكن السلطة التي تسلك طريقًا فظًا وغير إنساني. لذا نفتتن بشدة بالسلطة الناضجة العطوفة.
شاهدت أوباما في ضيافة ديفيد ليترمان
تمنح السخرية للمستضعفين (أو الأقلّ سلطة) وسيلة لنقد السّلطة العليا. كانت هذه هي النقطة التي ارتكزت عليها أعمال فرقة “مونتي بايثون – Monty Python”.
تسخر مباراة الفلاسفة من الرموز الكبرى للمثقفين عبر التاريخ. نرى المباراة ممتعة للغاية لأنها تكسر الرهبة التي طالما شعرنا بها تجاه شخصيات مثقفة جعلتنا نشعر بالدونية مقارنةً بهم كشوبنهاور وفيتجنشتاين. الآن نرى هذه الرموز الطوطمية في صورة هزلية خلال مباراة لكرة القدم. يحاول هذا العمل الفني أن يُري الأكاديميين كيف أنهم -بلا داع- أرهبوا الناس وقطعوا صلاتهم بالعامة. هو رسالة مشفرة للفلاسفة كي يكونوا أكثر لطفًا واتّصالًا بالواقع. يضع العمل الفلاسفة في قالب مرح لأنهم فشلوا بعناد خلال تاريخهم في أن يظهروا مرحين تجاه أنفسهم.
الجزء الأوّل: الكوميديا علاج للإحبط
الجزء الثاني: الكوميديا علاج للإهانة واحتقار الذات
6- الفلسفة كعلاج لفقدان المنظور
نحن نفشل في إدراك الحجم الحقيقي للأشياء. مشكلة عاديّة وقابلة للحلّ قد تبدو في نظرنا أكبر من حقيقتها. نفزع ونشعر بالخطر، ونتصرّف بطرق قد تجعل الأمر أسوأ. دون أن نشعر، نبالغ -عادةً- في تقدير الأمور.
طريقة الكوميديا في معالجة المبالغة هو أن تبالغ في الأمر أكثر حتى تصبح نظرتنا المتضخمة للأمر أكثر ضآلة بالمقارنة. هذا طبيعي للغاية، فعلى سبيل المثال، حين تشعر بالقلق من قيامك بتصرف غير لائق، حين يعرف الجميع ما هو لائق ويقومون به بسهولة، في حين أنّك لا تعرف أصلًا ما هو اللائق وتجعل من نفسك أضحوكة عن غير قصد. حين تصفّق في الوقت الخطأ في قاعة الموسيقى، تضحك خلال حديث جدّي، تأخذ شراب ضيفك من يد النادل أو تتلفّظ بحديث يراه الآخرون فظيعًا، لكنّك في جميع الأحوال لن تبلغ المستوى المذلّ لـ”مستر بين- Mr Bean”. بمقارنتك لمواقفك معه، ستبدو زلّاتك أهون بكثير. هذا هو عين العزاء في الكوميديا: تُضخَّم الأمور بشدة حتى تشعرنا بكوننا طبيعيّين للغاية حتّى في أشدّ مواقفنا إحراجًا.
تظهِر الكوميديا البريطانية السوداء، “ The Thick of It “، السلك السياسي كعالم معطوب لا رجاء فيه. الشخصيات هنا تفتقد تمامًا للكفاءة. تمامًا مثل “مستر بين”، تقدّم لنا مبالغة شديدة ومقصودة للواقع. يأسنا من مستوى السياسات والسياسيين لا يؤخذ على محمل الجدّ، لكن يُضخَّم ويبالَغ فيه في العمل الفني حتى يصبح الواقع السياسي في نظرنا أفضل حالًا إذا ما قارنّاه مع العمل الفني. تبدو ساعتها الحياة السياسية الواقعية أكثر عقلانية ومنطقية للدرجة التي تجعلنا لا نشعر بالحقد أو الحسد تجاه السياسيين الأعلى شأنًا: هم بغيضون للغاية، حيواتنا أفضل بالمقارنة.
الخلاصة
نميل أحيانًا لرؤية الكوميديا من خلال عدساتنا الرومانسية لشخص منفصل يرى العالم بطريقة متفرّدة وممتعة. لكن التركيز على هذه الحالات الفردية يُضيع علينا فهم الطبيعة الفلسفية العملاقة للغرض منها. الكوميديا ليست فقط للمتعة. يشكل المنظور الساخر حاجة ماسة لأيّ مجتمع عبر مساعدته لنا في احتمال نقائصنا، إحباطاتنا ومشاكلنا الوظيفية والعاطفية. تنتظر الكوميديا منا أن نسخّرها كأداة أساسية لبناء عالم أفضل.
الجزء الأوّل: الكوميديا علاج للإحبط
الجزء الثاني: الكوميديا علاج للإهانة واحتقار الذات
الكاتب: آلان دو بوتون. فيلسوف، كاتب ومقدم برامج بريطاني.
اضف تعليق