ثمّة تجارب توصف بـ ” الثورية “، وهي تتسبّب بإغلاق البلاد قدر الإمكان. فتمنع على سبيل المثال الإذاعات التي تُبثّ من خارج الحدود. وتصبح هناك رقابة شديدة على الكتب والتّرجمة والصحافة والأفلام. ثمّ تُحدَّد الأزياء ويُمنع السّفر في محاولة لخلق نوع خاصّ من البشر لا يسمع عن العالم سوى شيئ محدّد ومدروس في تصوّرٍ أنّ أيّ شيء يسمعه الإنسان قد يلوّث عقله ويسيء إلى تلك التجربة الثورية . الغريب أنّ قادة هذه التّجارب يصفون ثوراتهم بالثّورات التحرّريّة لكن، يبدو أنّ الهدف ليس تحرير الإنسان ليصبح له حقّ المقارنة والاطلاع والاختيار. بل التّحرير هنا هو تحرير من شرّ يتصوّره القادة كالتّحرر من الفكر الغربيّ أو الرّأسمالي أو الاشتراكي أو التحرّر من الفكر الديني الذي مارسه الاشتراكيون.
ربّما يتصوّر قادة هذا التّغيير الفكريّ أنّ العالم ملوّث وعليهم تطهيره كما تُطهَّر صالة عمليّات من الجراثيم. وبدون تطهيره لن يكون العيش السّليم ممكنا، فتصبح قراءة الفكر الماركسي جريمة في أمريكا وقراءة الفكر الرأسمالي كارثة تخرّب الإسان الاشتراكي وقراءة البوذية تلويثا لروح الهندوسي. وتنتشر مهن غريبة كمهرّب كتب ومهرّب كحول ومهرّب أفلام ومهرّب ملابس داخليّة شفافة! بالطبع فإنّ هكذا تجارب لا تستطيع أن تعيش إن لم تخلق لنفسها هُويّة. فهي إمّا أن تكون سياسيّة أو اقتصادية أو قوميّة أو دينية أو مذهبيّة ولابدّ لها أيضا أن تعطي للآخر الذي يعيش خارج الحدود المغلقة هويّة مختلفة ومناقضة. فإن كانت الهويّة الأولى قوميّة تصبح هوية العدوّ قومية ومعارضة. وإن كانت الهويّة الأولى مذهبيّة تصبح هوية العدوّ مذهبيّة ومعارضة.
كلّ هذا واضح بالنسبة لي والتجارب في العالم تتحدّث عن نفسها ولا حاجة لي بتسميتها. ومن الواضح أيضا أنّ هذه التّجارب لا تستطيع أبدا أن تكون تجارب إنسانيّة بالمعنى المثالي للكلمة، لأن الإنسانيّة ليست حصرا على بلد معيّن ولا دين بذاته ولا ثقافة أو قومية، بل الإنسانية هي نتاج البشر بكلّ أشكالهم وأفكارهم. ما يثرني في كلّ هذه التّجارب التي أتصوّرها عمليّة بناء سجون محصّنة هو أنّ إحدى وسائلها الدعائيّة هي إعطاء منبر لمن يتبنّى أفكارها في الجانب الذي تصفه بالعدوّ، كأن تستضيف شخصا اعتنق الدين الذي تتبنّاه أو آخر يعيش في بلد رأسمالي ويتكلّم عن الدّمار الرّوحي الذي تبثّه الرأسمالية في الشعوب لكنّهم أبدا لا يخبرون النّاس أنّ تبديل الدّين أو تركه أو تغيير الرّأي السّياسي أو المعارضة هي الحريّة التي وفّرها ذلك العدوّ لنفسه وحجبتها الثورية عن البشر.
اضف تعليق