مجاملة.. أن تعيشي بين هذه الخلائق المتحرّكة و بين هذا الجنون المركّب. مجاملة أن تتحوّلي بعد دقائق من استيقاظك من النوم لتكوني كما يُراد لك أن تكوني، أن تتظاهري بالنّشاط و السّعادة لاستقبال يوم جديد و أن تُخفي تكدّرات العيون من ضجر التّكرار اليومي و تُثبتي لتلك السّيدة التي نفض الزّمن على شعرها غباره الأبيض و تلاعب بجلد وجهها كرسّام مبدع أنّكِ سعيدة. كان لابدّ أن تتجاهلي حنان تلك العيون الباهتة التي لا تنير إلّا لفرحك والتي تخدش فيك كل صنوف الصّدق وتصغّرك أمام نفسك. في عينيها فقط تكونين كبيرة. و في عينيك.. لا مجال لك هناك.
ثمة فوضي في إعداد طاولة الفطور ليدين ترتعشان بفعل مرض الالتهاب الدماغي. لم يكن لي حق الاعتراض أو التّأفف من هذه الفوضى رغم رغبتي في ذلك. أن تفشلي في تنظيم سفرة الطّعام يعني أن تفشلي في صياغة تفاصيل حياتك بانتظام وربّما تفصيل واحد يخلق فيك السّعادة لفترة طويلة. هل يعقل أنّ أمّي لم تحسن اختيار نمط حياتها ولهذا ثمة ارتعاش عاطفي لم يثبت ببعض التفاصيل؟ أيعقل أنّ ما فعلته من أجلنا وما وصلت إليه خطأ اختياري؟ أنا أيضا لا أحسن تنظيم السفرة لكني أشعر بالفوضى وأدركها ولهذا أفقد أعصابي وأحاول جاهدة السّيطرة على نفسي. هو الفرق بيننا، أبدو مثلها وأكره أن أكون مثلها لأنّها كانت صالحة لعصرها ولستُ صالحة لعصري.
كالعادة وككلّ يوم نفشل في صب الحليب في الفناجين ونرسم سواقي من الحليب على الطاولة، لنحاول تدارك الأمر فنمسحها بخرقة مبلّلة. أعرف عدّة طرق لمنع وجود هذه الخرائط البيضاء ولكنّني أُحجم عن تدارك الأمر إلا بعد وقوعه. ربّما هي العادة أو ربّما أصرّ أن أكون مثلها. لا أدري أهو تحدّ ذاتي أو إذلال روتيني أو تناقض أعشق الانحلال فيه. خبز وزبدة ومربّى وقهوة “نسكافيه”. منذ مدّة لم أعد أشعر بطعم هذه السّفرة المبعثرة كشتات لا يشبه أيّ شيء. ومع ذلك، أكرّر الجلوس كل يوم وتقريبا في نفس التوقيت. لا أملّ ولا أغيّر ذلك، فالأكل خارج البيت مكلف بعض الشيء. وقهوة المقهى الذي بجانب المكتب أصبحت بلا طعم منذ أن أدركتُ أنّي أشتريها لأجل عيون النّادل التي لم تحبَّني ولكنّها ترافقني إلى أن أختفي. ولم تطل المدّة لأدرك أنّي كنت أشتري لذّةَ هاويةٍ بنظرة بلهاء، لكنّي لم أجد تفسيرا للدموع التي أذرفها وأنا في المصعد عائدة إلى المكتب. أكانت دموع وجع حبّ حقيقي أم دموع هزيمة لم أرضَها. فأن أحمل شعورا دافئا تجاه نادل مقهى لا يعيرني اهتمامه.
بردت القهوة ولا داعي لترشّفها. أشربها دفعة واحدة وأخطف “جاكيتي” الزهرية وأمضي إلى طريقي الأهبل.. إلى العمل. في الطّريق أسير كبلهاء، أتفحّص الحيّ الذي أسكنه منذ عشرين سنة. كلّ الجدران تتغيّر إلّا جدارنا لم تطأه يد التغيير ولو لمرّة طيلةحياته، فهو عار إلّا من لحاف أسود من الإسمنت و بعض الدهن الأبيض. كان حلمي أن أسدّ ثغرات آجرّه الأحمر وأن أجمّله فور حصولي على عمل. تصطدم بي أكوام تتحرّك بين اللحظة والأخرى وأنا أرسم الابتسام ببلاهة منمّقة وببعض الزينة التي كثيرا ما تمنحني بعضا من الثقة التي تتبخّر أمام عتبة المكتب.
مجاملة.. أن أصافح زملائي في العمل بحب وبابتسامات كبيرة. فهم صورة عنّي بين هذه الجدران البيضاء القاسية الخانقة التي تحيطني معهم لأكثر من تسع ساعات يوميا. على إيقاع نقرات الفأرة، نقضي وقتنا، ومع سيمفونيات ضغطات وتحركات حيواناتنا الإلكترونية.
اضف تعليق