كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يضيّق على الشّعراء. فقد كان يحفظ القصيدة من أوّل مرّة يسمعها فيها ويدّعي بأنّه سمعها من قبل. فبعد أن ينتهي الشّاعر من إلقاء القصيدة، يقوم الأمير بإلقائها عليه. وكان لديه غلام يحفظ القصيدة بعد أن يسمعها مرتين فكان يأتي به ليسردها بعد أن يقولها الشاعر ومن بعده الخليفة. وكان لديه أيضا جارية تحفظ القصيدة من المرّة الثّالثة فيأتي بها لتلقيها بعد الغلام ليؤكّد للشّاعر بأنّ القصيدة قد قيلت من قبل، وهي في الواقع من تأليفه. وكان يفعل هذا مع كلّ الشعراء. فأصيب الشّعراء بالخيبة والإحباط ،خاصّة وأنّ الخليفة كان قد وضع مكافأة للقصيدة التي لا يستطيع سردها، وزن ما كُتبت عليه ذهبا.
سمع الأصمعي بذلك فقال: “إنّ بالأمر مكر”. فأعدّ قصيدة منوّعة الكلمات وغريبة المعاني، ولبس لباس الأعراب وتنكّر حيث أنّه كان معروفا لدى الأمير. دخل على الأمير وقال: “إنّ لديّ قصيدة أودّ أن ألقيها عليك ولا أعتقد أنّك سمعتها من قبل. فقال له الأمير :”هات ما عندك”، فألقى عليه القصيدة التالية :
صـوت صــفير الـبلبـلي *** هيّج قـــلبي الثّمــلي
المـــــــاء والزهر معا *** مــــع زهرِ لحظِ المٌقَلي
و أنت يا ســـــــــيدَ لي *** وســــــيدي ومولي لي
فكــــــــم فكــــم تيمني *** غُـــزَيلٌ عقــــــــــيقَلي
قطَّفتَه من وجــــــــــنَةٍ *** من لثم ورد الخــــجلي
فـــــــقال لا لا لا لا لا *** وقــــــــد غدا مهرولي
والخُـــــوذ مالت طربا *** من فعل هـــذا الرجلي
فــــــــولولت وولولت *** ولـــــي ولي يا ويل لي
فقلت لا تولولـــــــــي *** وبيّني اللؤلؤ لــــــــــي
قالت له حين كـــــــذا *** انهض وجــــــد بالنّقلي
وفتية سقــــــــــــونني *** قـــــــــهوة كالعسل لي
شممـــــــــــتها بأنافي *** أزكـــــــى من القرنفلي
في وســط بستان حلي *** بالزهر والســـــرور لي
والعـــود دندن دنا لي *** والطبل طبطب طب لـي
طب طبطب طب طبطب *** طب طبطب طبطب طب لي
والسقف سق سق سق لي *** والرقص قد طاب لي
شـوى شـوى وشــــاهش *** على ورق ســـفرجلي
وغرد القمري يصـــــيح *** ملل فـــــــــــي مللي
ولــــــــــــو تراني راكبا *** علــــى حمار اهزلي
يمشي علــــــــــــى ثلاثة *** كمـــــشية العرنجلي
والناس ترجــــــــم جملي *** في الســوق بالقلقللي
والكـــــــــل كعكع كعِكَع *** خلفي ومـــن حويللي
لكـــــــــــن مشيت هاربا *** من خشـــية العقنقلي
إلى لقاء مــــــــــــــــلك *** مــــــــــعظم مبجلي
يأمر لي بخـــــــــــــلعة *** حمـــراء كالدم دملي
أجــــــــــــر فيها ماشيا *** مبغــــــــــددا للذيلي
أنا الأديب الألمــعي من *** حي أرض الموصلي
نظمت قطــــعا زخرفت *** يعجز عنها الأدبو لي
أقول في مطلعــــــــــها *** صوت صفير البلبلي.
حينها أُسقط في يد الأمير فقال: “يا غلام! يا جارية!”. قالوا : “لم نسمع بها من قبل يا مولاي.” فقال الأمير : “أحضر ما كتبتها عليه فنزنه ونعطيك وزنه ذهبا”. قال: “ورثت عمود رخام من أبي وقد كتبتها عليه ، لا يحمله إلّا عشرة من الجند.” فأحضروه فوزن الصّندوق كلّه. فقال الوزير: “يا أمير المؤمنين ما أظنّه إلّا الأصمعي.” فقال الأمير: “أمط لثامك يا أعرابيّ!” فأزال الأعرابي لثامه فإذا به الأصمعي.
فقال الأمير: “أتفعل ذلك بأمير المؤمنين يا أصمعي؟!” قال: “يا أمير المؤمنين، قد قطعت رزق الشعراء بفعلك هذا.” قال الأمير: “أعد المال يا أصمعي.” قال: “لا أعيده.” قال الأمير: “أعده.” قال الأصمعي: “بشرط.” قال الأمير: “فما هو؟” قال: “أن تعطي الشّعراء على نقلهم و مقولهم.” قال الأمير: “لك ما تريد.”
رابط تمثيلي للقصة:
هنا
رابط لسماع القصة:
هنا
- ملاحظة: هناك خلاف حول ما إذا كان الأصمعي صاحب القصّة مع الخليفة. لم نجد مصدرا يجزم في الموضوع فارتأينا أن ننشر الحكاية لما فيها من طرافة، سواء كانت واقعيّة أو متخيّلة أو أنّ الشاعر غير الأصمعي.
اضف تعليق