«إلى أيّ مقدار قد نقدّر لوحة الجيوكاندا هذه الأيام، لــــو أنّ ليوناردو كتب أسفل قماشة اللوحة: “هذه السيدة تبتسم نصف ابتسامة لأنّ أسنانها مُتعفنة، أو لأنّها تخفي سرًا عن عشيقها؟” فذلك سوف يلغي تقدير المُشاهد تمامـًا، ويقيّده إلى واقع آخر مُختلف عن الصّورة التي شكلّها لنفسه. أنا لا أريد أن يحدث ذلك لـ 2001.» — ستانلي كوبريك، پلاي بوي، 1968.
في عام صدور أوديسة الفضاء ، كـــــانت آفاق اكتشاف الفضاء واسعة: في عشية العرض الأوّل بالولايات المتحدة، أرسلت بعثة (أبوللو 8) أوّل إنسان ليطوف في المدار الخاص بالقمر، وبعد عام، قامت بعثة (أبوللو 11) بالهبوط على سطح القمر. استغل المُخرج السينمائيّ ستانلي كوبريك هذه اللحظة الفارقة في عمر الإنسانيّة، وقام بتصوير فيلمه بطريقة مُبتكرة واستثنائيّة؛ فبدلاً عن الثيمات المُعتادة لهذا النوع من أفلام الخيال العلميّ مثل علماء مجانين، روبوتات حمقاء تتحرك بصعوبة، كائنات فضائيّة غريبة، نساء مُثيرات في أزياء سخيفة..إلخ قد رأى المُشاهدون لأوّل مرّة عرضـًا سينمائيـًا حقيقيـًا يطرح صورًا تقنيّة علميّة واقعيّة وأسئلة فلسفيّة مُعقدة. عنوان الفيلم يستدعي لذهن المُشاهدين ملحمة (هوميروس) اليونانيّة حول أسفار البطل الأسطوريّ الهائم على وجهه (أوديسيوس)، الذي يتجه بعد مشاركته في حرب طروادة إلى (إيثاكا)، عائدًا إلى وطنه ومَوقده ونفسه. على غِرار (هوميروس)، يتساءل صانعو الأوديسّة الفضائيّة: مـــا هي الوجهة النهائيّة للإنسان؟ مـــا هو المعنى الحقيقيّ من الوجود الإنسانيّ؟
- الپرولوج: «فجر الإنسانيّة»
أحدثت أوديسة الفضاء ثورةً في هذا النوع من الأفلام بفضل نبذها كلّ مـــا كـــــان مألوفـًا من قبل في مجال الخيال العلميّ: نبذها لصوت الراوي الذي يعلّق على الأحداث ويخلق نوعـًا من التأثر الزائف، للألعاب المصنوعة للتمثيل، للموسيقى المُصاحبة للأبطال في لحظاتهم الحرجة. أوّل حوار في الأوديسّة كـــــان بعد 26 دقيقة من عرض الفيلم! على الرغم من أنّه لن يوضّح فكرة المحتوى. المنحة الوحيدة التي أعطاها (كوبريك) لمُشاهديه هي العناوين الفرعيّة التي كانت تظهر بين كلّ حلقة من حلقات الفيلم، فأضفت بعض الإيضاح، وأكدّت على التزام المُخرج للصمت. أوّل حلقة في الفيلم «فجر الإنسانيّة» لم توضّح سير الأحداث إلا بالقدر الذي أضفت به صبغة المؤلف الساخرة، الفكرة التي ستتجلى في الكوادر الأخيرة للأوديسّة.
- كوكب القرود: داروين لم يكن مُحقـًا
كاتب السيناريو (آرثر كلارك) لم يكن يمزح عندما قال: “مترو غولدين ماير/MGM لا تعلم أنها قامت بتمويل أوّل فيلم دينيّ بمبلغ ستة ملايين دولار.” قام (كوبريك) مع صديقه (كلارك) بافتراض قصتهما لميلاد الإنسان، التي تختلف عن المفهوم الدارويني (نظرية التطور) وكذلك عن المفهوم اليهودي/المسيحي (الخلق). الخيال العلمي عند (كوبريك) أقرب مـــا يكون لأطروحة خلق العالم التي يسميّها المؤسسون الدينيّون الأمريكيّون المعاصرون: (التصميم الذكي/Intelligent Design)، التي بموجبها تفترض وجود (مُصمم ذكي/Intelligent Designer) خلق البشر.
- العمود الأسود: العقل اللاأرضيّ
الآراء مُتضاربة حول ماهية (المونوليث/Monolith) الأسود المُلغز، الذي يظهر خلال الفيلم عدّة مرات بشكل مُفاجئ أمام أبطال الأوديسّة. وفقـًا لتفسير إيجابي، يمكن اعتباره القوّة الطيبة الواهبة للتكنولوجيا، التي لا يستطيع أن يتوصّل لها الإنسان، ووفقـًا لتفسير سلبيّ فقد يكون قوّة شريرة في صورة واضحة، عندما اقتربت منه القرود المتوحشّة فتوصّلت لمعرفة استخدام العظام كسلاح للقتل. في أيّة حال، المُشاهدون لهم خيار تخمين معنى هذا العمود الأسود قائم الزاوية بالنسبة للأبطال: هل هو عقل لاأرضيّ خارق؟ هل هو ذاكرة محفوظة لحضارة مُندثرة؟ أم هو مجرد قطعة من البازلت لها أبعاد متناسبة مع مبنى الأمم المتحدة في نيويورك (1:4:9)؟ عمومـًا، مُعظم الآراء النقديّة تلتقي عند رأي واحد: (المونوليث) يمثّل معنى أكبر من الشكل الظاهري له، وأنه شيء لا يمكن أن يتوصّل الإنسان إلى ماهيته، فهو أداة تعمل بقوانين غامضة، يظهر ويفعل ما يشاء، ومتى يشاء. وأنه رمز لملايين الإمكانات التي قد تنبعث من سطحه الأملس.
- «هكذا تكلّم زرادشت»: العنف و القتل أساسا الحضارة
«الإنسان حبلٌ معقود بين الحيوان والإنسان الأعلى – حبلٌ فوق هاوية.» — هكذا تكلّم زرادشت، فريدريش نيتشه.
المشهد الذي يظهر فيه قرد يرفع عظْمة من الأرض على خلفيّة سيمفونية «هكذا تكلم زرادشت» للموسيقار الألمانيّ (ريتشارد شتاروس) متحولاً إلى قاتل، من الممكن أن تكون مفتاحـًا لفهم ليس فقط الأوديسّة الفضائيّة بل جميع أعمال (كوبريك). وفقـًا (لكوبريك)، فإنّ دافع العنف في العالم الإنسانيّ مُرتبط بتناقض ظاهريّ مع العقل، والشرّ كامنٌ في قلب الطبيعة الإنسانيّة. مع موسيقى (شتراوس) في الكوادر الأولى والأخيرة للفيلم، وكذلك في مشهد انتصار القرد شبيه الإنسان، يوجّه المخرج جليـًا أنظار مشاهديه نحو فلسفة الفيلسوف الألماني (فريدريش نيتشه) التي تقول أنّ: “الإنسان هو المرحلة الفاصلة في تحوّل القرد إلى (فوقـإنسان/Superman).” (كوبريك) يعتقد بوضوح أن إله هذا الزمان هو (زرادشت). هذا الإله الفظيع، القاسي، البعيد عن الرحمة، حاكم هذا العالم الذي ينتظر كارثة لا مفر منها، والإنسان محكوم عليه بالمعاناة النفسيّة.
- تحوّل العظْمة إلى سفينة فضائيّة: عشرة آلاف سنة في مشهد من عشر ثوانٍ!
المشهد الذي يظهر فيها القرد شبيه الإنسان قاذفـًا بعظْمة نحو السماء، مـــا تلبث أن تتحوّل إلى سفينة فضائيّة، يذكره الجميع ويستشهدون به كمثال للأوديسّة، وكظاهرة فريدة لسينما (كوبريك). التحوّل المُمَنتج لقذفة العظْمة إلى سفينة فضائيّة يتضمّن تاريخ الإنسانيّة كله – من اختراع السلاح حتى العصر الفضائيّ. باستخدام هذه الوسيلة السينمائيّة، استطاع (كوبريك) إظهار التقدّم المُتطور للإنسانيّة، مؤكدًا على الصلة التي تجمع العنف مع العقل الذي يحوي مصدر ذلك العنف. الكادر يجسّد كلّ قدرات السينما بوصفها الطريقة الفنيّة الوحيدة القادرة على التعبير عن هذه الاستعارة المُعقدة بأقصر مدة، وبأكبر قدرة تعبيريّة.
- على ضفة «الدانوب الأزرق» الجميل: فالس السُفن الفضائيّة
لإظهار كيفيّة تبدّل تصوّرنا للفضاء المُحيط بنا، يتخذ المُخرج طريقـًا غير اعتياديّة. على عكس الكثير من أفلام الخيال العلمي، التي يمثل فيها الطيّارون وهم يطيرون بسرعة كبيرة، ففي الأوديسّة كلّ شيء يتحرك بهدوء وانسجام. مشاهدو الستينيّات، عند وصفهم للشعور الذي يعتريهم عند مشاهدة الفيلم، يؤكدون أن: “في الفيلم لا يمكن الشعور بأية سرعة في الحركة، كالتي تكون في المصاعد والطائرات النفّاثة.” موسيقى فالس (الدانوب الأزرق) للموسيقار (يوهان شتراوس) تعزز هذا الانطباع عند المُشاهد: إنّها لا تختلط إطلاقـًا بالمؤثرات الصوتيّة الداخليّة الأخرى أو بحوارات الأبطال، فتحوّل الأوديسّة إلى أكثر فيلم خيال علمي بطيء الوتيرة في تاريخ السينما.
- تلفاز على الجزء الخلفيّ للكرسي وشاشات عرض LCD: اختراعات «آرثر كلارك»
(كوبريك) أراد تصوير فيلم خيال علمي؛ لكن في الوقت نفسه صحيح من الناحية التقنيّة. لذلك، اعتمد على سيناريو (كلارك) الذي لم يكن فقط كاتبـًا فانتازيـًا بل عالمـًا ومخترعـًا حقيقيـًا. هدى خيال (كلارك) المُعتمد على المعرفة العلميّة إلى فكرة المكوك الفضائي والمحطة الفضائيّة التي تشبه «أجهزة الطرد المركزي/Centrifuge» التي تقوم بخلق مجال طرد مركزي صناعيّ. من بين تصوّرات (كلارك) عن المستقبل، والتي كانت صحيحة تمامـًا: التلفاز المُثبت على الجزء الخلفيّ للكرسيّ، التعرّف على بيانات الهويّة الشخصيّة بواسطة بصمة الصوت، كومبيوتر يقوم بلعب الشطرنج، شاشات الكريستال السائل المُسطحة، أجهزة كومبيوتر محمولة، بطاقات مصرفيّة مُمَغنطة، قنوات تليفزيونيّة متخصصّة، والكثير من التقنيّات التي ظهرت في الأوديسّة. لكنّ الأمر الأكثر دقة كـــــان تخيله لشكل حياة الإنسان في المُستقبل المكتوب في مقالة عام 1969 يقول فيها: “لن يتم اعتبار العمل على أنه نشاط شريف، أمّا أوقات الفراغ فستكون من أكثر الخدع الشيطانيّة الماكرة.”
- «هيلتون» في الفضاء: المُستقبل بتصميمات الستينيّات
تخلّى (كوبريك) عن كلّ الإرث الخيال علميّ الذي خلّفه من سبقوه؛ فلم يقم بصنع الديكورات الداخليّة المُعتادة لهذا النوع السينمائيّ. التصميمات والتفاصيل التي تنتمي لحقبة الستينيّات كانت مُقنعة لخلق الجو العام للمُستقبل: الكراسي الحمراء في صالة استقبال «هيلتون» الفضائيّ، السُفن الفضائيّة البيضاء، المُغطى أجزاءها بالبلاستيك الأصفر، أزياء المُضيفات، والكثير من التفاصيل الأخرى.
- الحرب الباردة: الاتحاد السوڤيتي لا يزال موجودًا!
في عالم المستقبل تستمر الحرب الباردة كذلك بين الاتحاد السوڤيتي والولايات المتحدة. (مثال هذه الحرب في عالم الماضي التصارع بين عشيرتي القرود شبيه الإنسان على نبع المياه) إنّ النظاميّ الرأسماليّ و الشيوعيّ لا يستمرّان فحسب، بل يزدهران: يقومان بعمل رحلات مُنظمة للفضاء (شركتا بان أمريكان/Pan Am و أيروفلوت/Аэрофлот)، يتجسسان على بعضهما البعض كما المُعتاد، يعملان في سريّة تامة عن المُنافس. لكن انحياز صانعي الأوديسّة لا يميل إلى أيّ من الطرفين. (كوبريك) و(كلارك) يدفنان كلا النظاميْن، ثم يضعان في نهاية الفيلم نبوءة فناء البشريّة جمعاء.
- الدائرة أمام المربّع: الإنسان أمام العقل اللاأرضيّ
«كلّ مـــا هو مُستقيم كاذب، كلّ حقيقة معوجّة، والزمن نفسه دائرةٌ مُغلقة.» — هكذا تكلّم زرادشت، فريدريش نيتشه.
الشكل الهندسي الأساسيّ في الأوديسّة هو الدائرة، التي ترمز للبشريّة كلها وتمثّل الرمز المضاد لـ(المونوليث/Monolith) الذي يرمز إلى العقل الخارق اللاأرضيّ. الدائرة تعتبر هي العنصر الأساسيّ في تركيب الأوديسّة: إنها الطريق ذهابـًا وعودة. هذه الفكرة مُتمثلة في أيّ شكل دائريّ تكرر ظهوره في الفيلم: الإطار الفضيّ لمدار المحطة الفضائيّة والسفينة التي تشبه الكرة، التي طار على متنها المُستكشف إلى القمر، العين الحمراء الدائريّة للكومبيوتر الفائق/Supercomputer، دوائر الكبسولات الفضائيّة ونوافذ المكوك، المُضيفة التي تصعد لأعلى فوق حائط معوّج، رائد الفضاء الذي يجري مثل سنجاب في دولاب دوّار، في دائرة لانهائيّة داخل الفضاء المُنغلق للسفنية. وفقـًا (لكوبريك)، فإنّ عالم الإنسانيّة هو هذا الفضاء المُنغلق، الذي من المستحيل أن تحدث فيه أيّة تغيرات جوهريّة، والإنسان محكوم عليه بمَ خلّفه أسلافه؛ لأنّه ليس في مقدوره إيجاد مخرج من هذه الدائرة المُنغلقة.
- إرشادات حول استخدام المرحاض بحالة انعدام الجاذبية: اندحار الإنسان
الفُكاهة في أوديسة الفضاء تتبدى في تعبير الممثل بهذا المشهد، ويمكن استقراء الفكرة الساخرة التي ساقها المُخرج. هذه المزحة: “إرشادات حول استخدام المرحاض في انعدام الجاذبية” بوصفهـا مثالاً للحضارة التي لم تحل أحد مشاكل الإنسان الأساسيّة؛ ولكنها تقوم بتغيير مظهرها الخارجيّ فحسب. فالسفر إلى كوكب المشتري كـــــان مَهمة أكثر قابليّة للتنفيذ، من انتصار الإنسان على وظائف جسده الفيزيولوجية!
- لمس عامود المونوليث الأسود للمرة الثانية: لم يكن القرد، وليس هو الكائن العاقل بعد
الحلقة الأولى: «فجر الإنسانيّة» والثانية: «بعثة إلى القمر» تشكّلان الصوت وصداه لبعضهما البعض: كلّ من القرود والبشر يقومان بصنع الأسلحة، سواء هـــؤلاء أو أولئك فإنهم يتحدّون في جماعة تقترب من العامود الأسود. بشر المُستقبل يشبهون القرود في جزء كبير من حياتهم: ينامون ويأكلون. عندما يقوم مبعوث ناسا بمد يده للمس هذا العمود الغريب الذي تم اكتشافه على سطح القمر، يصدر العامود إشارة كالتي أصدرها مع القرود، فإنّ روّاد الفضاء يتجمعون حول المونوليث من أجل التقاط صورة للذكرى، متذكرين أسلافهم الأسترالوبيثكس. (كوبريك) يلفت أنظار مشاهديه إلى أدق التفاصيل للوجود الفضائيّ بالمستقبل: استخدام الطعام، التصارع بين روّاد فضاء الاتحاد السوڤيتي والولايات المتحدة، يظهر كما لو أنّه بعد مرور مليون سنة، البشر لم يتغيروا إلا بصورة طفيفة، وأنهم لم يبتعدوا كثيرًا عن أسلافهم الأولى أشباه الإنسان.
- الكومبيوتر الخارق HAL-9000: پوليفيموس العصر الفضائيّ
العين الواحدة الحمراء للكومبيوتر الخارق (9000-HAL) بسفينة الفضاء (ديسكوفري) تعتبر إشارة تلميحيّة لأوديسّة (هوميروس). في الواقع، كلّ مـــا يحدث على متن السفينة أثناء الرحلة إلى كوكب المشتري يعتبر إعادة تصوير لحلقة من حلقات الملحمة الهوميروسيّة، حيث يقابل (أوديسيوس) أحد عمالقة السكلوب ذا العين الواحد (پوليفيموس/Polyphemus). روّاد الفضاء باتوا وكأنهم أسرى عند الكومبيوتر في الفضاء المُنغلق للسفينة الفضائيّة، كما لــــو أنّهم أحد رجال قبيلة (أوديسيوس) الذين صاروا أسرى في كهف الكائن الأسطوريّ (پوليفيموس). استخدم (أوديسيوس) السكين كي يفقأ عين (پوليفيموس)، أمّا رائد الفضاء للهدف نفسه يستخدم مفك البراغي.
- بشر المُستقبل: فارغون و مملّون
على نقيض الحاسوب الخارق (HAL-9000) الثرثار، فإنّ البشر على متن سفينة (ديسكوفري) انطوائيّون، صامتون، متبلّدون، ضعيفو التعبير عن ذواتهم. ليس من قبيل المصادفة أن يكون هناك تشابه كبير بينهم وبين الروبوتات التي يعملون معها. التبلّد العاطفيّ لأعضاء البعثة الفضائيّة يظهر جليـًا بشكل ساحق مقارنةً بـ (HAL-9000). على الرغم من أنّ الحوارات بالأوديسّة الفضائيّة تشكّل أقل من ثلث مدّة عرض الفيلم، إلا أنّ اللغة الفارغة تشكّل واحدةً من أهم ركائز الفيلم، بشكل أوضح، انهيار اللغة الحواريّة. الخواء المُتعمّد من المُخرج في الحوارات له أهميّة أكبر من حبكة السيناريو: اللغة الخاوية بوصفها نتاجـًا للضحالة الفكريّة، التي وصل لها الإنسان في 2001، وهي إشارة إلى الأزمة الروحيّة التي تتطلّب تدخلاً قويـًا من التطور الذي يقود مسيرته العمود الأسود. بشكل مشابه، كان هذا التدخل ضروريـًا أثناء الأزمة التاريخيّة من أجل عبور شبيه الإنسان إلى (الهوموسابينس/Homo sapiens).
- الخطأ الأوّل للكومبيوتر: كش ملك في ثلاث خطوات
أثناء جولة الشطرنج التي كـــــان يلعبها (HAL) مع رائد الفضاء، يشير الكومبيوتر إلى أنه يمكن تحقيق الفوز في ثلاث خطوات. في الحقيقة، لقد وقع (HAL) في خطأ، حيث أنّه يمكن عمل كش ملك في خطوتيْن فقط. هذا الخطأ البسيط يعتبر أوّل لمحة عن اختلال الحاسوب المُستقبليّ. حينما نازع البشر في السلطة والتحكّم. تفسير آخر ممكن لتصرّف الكومبيوتر هو: الكذب المُقنع والمُخادعة التي تعتبر ضمن خطة محاكاة العقل الصناعيّ للسلوك البشري. إنّ مشكلة محاكاة المنطق البشريّ تفترض تمامـًا أن يكون الكومبيوتر قادرًا على ارتكاب الأخطاء، والتظاهر، والكذب، حيث أنّ هذه الأخطاء تكون غير واضحة، بل هي أخطاء بشريّة شائعة، والتي قد يرتكبها أيّ إنسان. هكذا يصبح كذب الكومبيوتر مماثلاً لكذب الإنسان الطبيعيّ الذي يعتبر واحدًا من أهم شروط السلوك البشريّ اليوميّ.
- الكومبيوتر يقرأ حركة الشفاه: الترويع اللاإنسانيّ
الكاميرا الشخصيّة (الكادر الذي يرى من خلاله المُشاهدون الحدث من وجهة نظر واحد من شخصيات الفيلم) تقريبـًا لم يستخدمها المُخرج في النصف الأول من الفيلم، لكنه استخدمها في النصف الثاني في أكثر من مشهد. بهذا الكادر الفريد رأينا حوار رائديّ الفضاء حول نيّتهما بتعطيل (قتل) الكومبيوتر (HAL)، يرى المشاهدون فجأة مـــا يحدث بواسطة عين الكومبيوتر. في هذه اللحظة، يفهم المشاهدون جيدًا أن المؤامرة قد انكشفت، ويشعرون بالخوف على رائدي الفضاء، اللذين صارا مُهدديْن بالخطر المُميت. لكن الخوف الأكبر والمشاعر غير الإنسانيّة هي التي يشعر بها في تلك اللحظة هذا الكائن ذو العين الحمراء الواحدة التي يرى من خلالها المشاهدين مـــا يحدث أمامه من تدبير المؤامرة بقتله: هذا الكائن الذي لم يكن لديه جسد، ليس حيـًا، ليس ميتـًا، لكنه يدرك جيدًا أنهما أجمعا على قتله.
- الكومبيوتر يقتل رائد الفضاء: 4 مقابل 0
الأوديسّة الفضائيّة أصبحت هي الفيلم الوحيد لـ(كوبريك) الذي لم يتطلب أن يُعاد تعدليه بقرار من الرقابة الهوليوديّة. في تقرير لإدارة قانون إنتاج الأفلام حول محتوى الأوديسّة، أدرج المُراقب متعجبـًا ملاحظة واحدة فقط بعنوان: “جريمة: كومبيوتر يقوم بقتل أربعة أعضاء من الطاقم؟” إلا أن عدم استيعاب الرقابة كـــــان أقل وطئـًا بكثير مقارنةً بردة فعل الذين حضروا العرض التمهيديّ للفيلم في مارس 1968. أغلب المشاهدين في البداية اعتبروا المشهد غير مفهوم تمامـًا، حيث أنه يفتقد الحبكة الدراميّة. عبّر بعض المشاهدين عن استيائهم من التأثيرات الصوتيّة والمرئيّة. هكذا، في أكثر المشاهد دراميّة لقتل الكومبيوتر لرائد الفضاء، يقوم (كوبريك) في سبيل الواقعيّة بإلغاء تأثير الصوت في الفضاء الخارجيّ، بمَ في ذلك الضوضاء الخلفيّة للمشهد. فتكون النتيجة: مشهد طويل وثقيل لموت رائد الفضاء (پول)، يبتدأ بصوت تردد أنفاسه الرتيبة داخل بذلته الفضائيّة على خلفية الضوضاء الكومبيوتريّة، ثم ينتهي بصمت طويل ومُريع.
- رائد الفضاء يقتل الكومبيوتر: 4 مقابل 1
غناء (HAL-9000) للأغنية المشهورة «Daisy Bell» قبل أن يشرف على موته، يعتبر هو الدرج الأخير في مضمار «أنسنة» الحواسيب: الأمر يشبه عندما يسترجع المرء ذكريات طفولته وهو على حافة الموت. الخوف والجنون اللذان يعتريان الكومبيوتر قبل مصرعه (الكومبيوتر الذي يعتبر هو أكبر إنجاز عرفته العقول البشريّة)، النتيجة الواضحة والمنطقيّة لتطور العقل البشري هي طريق مسدودة تمامـًا. جدير بالذكر، أنّ أغنية «Daisy Bell» تعتبر هي أوّل أغنية يقوم الكومبيوتر بغنائها عام 1961 عن طريق تقنية (توليف الكلام/Speech synthesis).
- البوابات النجميّة: سيمفونيّة «كوبريك» البصريّة
لاصطحاب المُشاهد في رحلة الانتقال إلى حدود المطلق، قام (كوبريك) بتوليف عرض للألوان على الشاشة. ظهر لنا بهذه الطريقة لأوّل مرة لغة سينمائيّة جديدة مُبتكرة. المشهد الأخير لسقوط رائد الفضاء خلال البوابات النجمية (بعد احتماليّة لمسه لعامود المونوليث)، تم تصويره بواسطة كاميرات متخصصة. من غير المستغرب أنّ مشهد انتقال رائد الفضاء إلى بُعد زمنيّ مختلف متصلٌ بشكل وثيق بالرؤى الخياليّة التي حصلت له عند وصوله. في نهاية الفيلم، يحصل انفجار هائل. السيناريو انتهى ولا يفصح عن أيّ شيء. نحن الآن عند رؤية (تنبوئية/Apocalypses) خارج نطاق الزمان والمكان. المشهد النهائيّ غير مفهوم لغالبيّة المُشاهدين، وكمحاولة لافتراض رؤية جديدة له: أنّ رائد الفضاء اجتمع بكل نُسخه المُمكنة على مرّ السنين في مشهد سرياليّ منزوع السيناريو.
- غُرف: خارج الزمان و المكان
بعد سيمفونية ضوئيّة طويلة استغرقت عشر دقائق، والتي كانت تشبه نوعـًا مـــا التحوّل في الفيلم. في الحلقة الأخيرة، تتكشّف لنا عدة غرف مؤثثة على طراز القرن الثامن عشر. يتعطّل عندئذٍ المنطقُ المعتاد، الوقت والمكان يفقدان خصائصهما الأرضيّة. (كوبريك) يتعمّد تغيير الكوادر بشكل عشوائيّ أمام المُشاهدين. في البداية، نرى مـــا يحدث بعيون رائد الفضاء الذي يكون قابعـًا داخل كبسولته الفضائيّة، التي توجد في منتصف الغرفة. ثم يظهر بشكل فجائيّ على الشاشة بوجهه المجعّد في بذلته الفضائية. يحاول (كوبريك) باستخدام كوادر مُختلفة ومن جهات عشوائيّة أن يعبّر عن فكرة سعي الإنسان للخروج من حدوده الزمكانيّة، نظرات الشخصيّات المبهوتة بالغرفة تتواءم مع نظرات المُشاهدين الذين يتابعون رائد الفضاء وهو يشيخ ثم يموت على سريره.
- الكأس المكسورة: الآن شيء ما سيكون
مشهد الكأس المكسورة نرى وضعيّة رائد الفضاء الذي شاب شعره وهو يحني رأسه جانبـًا، موجهـًا نظره نحو شظايا الزجاج، يتناص بشكل واضح مع مشهد بداية الفيلم، عندما اكتشف القرد العظام فوق الرمال وكأنهما يقولان بلسان واحد: “هذا هو اكتشاف عظيم!”
- الطفل الفضائيّ: فجر الفوقــإنسانيّة
«أذكر لكم تحوّلات ثلاث للعقل: كيف يتحول العقل إلى جمل، والجمل إلى أسد، والأسد إلى طفل بالنهاية.» — هكذا تكلّم زرادشت، فريدريش نيتشه.
السخرية الأولى في عنوان بداية الفيلم: «فجر الإنسانيّة.» تظهر من جديد في الكوادر الختاميّة للفيلم، عندما يموت رائد الفضاء، ثم يولد من جديد على هيئة «فوقـإنسان/إنسان فائق/طفل النجوم». هذا الجنين الضخم ذو العينيْن الجادّتيْن والشبيهتيْن بالإنسان. لا يمكننا إغفاء التشاؤميّة التي يعرضها (كوبريك) طوال مدة الفيلم، والتي يمكن تلخيص فكرتها في أنّ: ليس في مقدور الإنسانيّة أن تنصب آمالها على أيّ شيء. البشر لا يستطيعون تحطيم الحلقة المُفرغة التي يعيشون فيها. لذلك، كلّ شيء يمكن أن يحدث للإنسانيّة، لن يحدث وفقـًا لإرادتها، بل ستأتي دومـًا إمكانيات التغيير كشيء من الخارج، أي بواسطة تدخّل قوى لاأرضيّة عُليا.
- المراجـــع:
- هذا المقال مُترجم بتصرّف عن النص الأصليّ: هنــا.
- هكذا تكلم زرادشت، فريدريش نيتشه، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل.
- لمزيــد التفاصيل: هنــا هنــا هنــا.