مصر يا امّه يا سفينة مهما كان البحر عاتي
فلاحينك ملاحينك يزعقو للرّيح يواتي
اللي ع الدفة صنايعي و اللي ع المجداف زناتي
و اللي فوق الصّاري كاشف كل ماضي و كل آتي
عقدتين و الثالثة ثابتة تركبي الموجة العفية
توصلي برّ السّلامة معجبانية و صبيّة.. يا بهيّة
متى عرفت مصر وكيف؟
عرفتُ مصر منذ طفولتي، ربّما قبل أن أعرف تونس. ليس مبالغة، لكنّها المسلسلات المصريّة والأفلام المصريّة التي تغزو الشّاشات في بيوتنا. كلّنا تربّى على مسلسلات مثل “ليالي الحلميّة” و”حارة المحروسة” بل وحفظنا أسماء الممثّلين المصريين قبل التونسيّين. أغلبنا كبر على أغاني عبد الحليم حافظ وأمّ كلثوم وعبد الوهاب. تلفزتنا الوطنيّة وراديوهاتنا زرعت مصر فينا أغنية ومشاهد. في قريتي الصّغيرة في ريف بعيد نسبيّا عن الحاضرة تعرّفت إلى شوارع القاهرة وصعيد مصر حين نتحلّق كلّ ليلة لمشاهدة الحلقة الجديدة من المسلسل المصريّ، قبل أن أعرف مدنا قريبة في بلادي. لستُ أبالغ لكنّها حقيقة أنّنا كنّا فقراء في ما يخصّ العلاقة بالوطن الأمّ ونعدم سبلا ممكنة لطبقات أرفع في المجتمع جعلتهم أقرب منّا لمعرفة تونس.
جاءت دروس التّاريخ في المرحلة الإعداديّة، لأعرف “مصر الفرعونيّة”. أذكر أنّ هذا أحد المحاور التي درستها في مادّة التّاريخ، إضافة للحضارة الفينيقيّة والإغريقيّة والبابليّة وغيرها من الحضارات القديمة. وترافق هذا مع بداياتي في عالم الكتب السّحريّ، وأوّل حبّي كان مصريّا، نجيب محفوظ العظيم. وهل أكذب إن قلت أنّ الأدب المصريّ كان يحتلّ رفوف المكتبات العموميّة ومكتبات المعاهد والمدارس؟ تدعّمت معرفتي بشوارع القاهرة وحاراتها القديمة وشواطئ الإسكندريّة وأرياف مصر وحقولها عن طريق روايات محفوظ وهيكل وطه حسين ويوسف السباعي وإحسان عبد القدّوس وغيرهم. أنا لا أستطيع لليوم أن أستظهر عشرة أسماء لأدباء وشعراء تونسيّين لكنّي لن أخيب في ذلك إذا ما تعلّق الأمر بمصريّين. تخسر بلادي الصّغيرة، قليلة السّكان السّباق أمام مصر التي يقولون عنها “أمّ الدنيا”.
الغيرة:
كلّما كبرتُ تفتّحت عيوني أكثر على حقيقة مصر. أشرطة “شيخ إمام” القديمة في البيت مثلا وأشرطة عبد الحميد كشك الممنوعة التي أسمع عنها. تعاملت مع الاثنين بذات الشّكل لأنّي لم أكبر في بيتٍ مسيّس، لكنّه يحبّ الكتب. أذكر أنّي لم أسعد بهديّة مثلما سعدت بحصولي على ثلاثيّة نجيب محفوظ “بين القصرين/قصر الشوق/السكّريّة” كجائزة في آخر سنة من سنوات الإعداديّ. وهذه الثّلاثيّة تحديدا قرأتها مرّات ومرّات، ومنها بدأت أتساءل عن “سعد زغلول” والثّورة التي مات فيها فهمي ابن “أحمد عبد الجواد”. لأتعرّف لاحقا على “جمال عبد النّاصر” وتجربة الوحدة مع سوريا في روايات “السّباعي”. بدأ يتكوّن عندي شعور بالغيرة من هذا البلد الكبير مساحة وتاريخا وفنّا وأدبا. حتّى في مباريات كرة القدم التي تعوّدنا متابعتها مع أبي، كانت مصر دائما مزعجة. لا أزال أذكر أنّنا كنّا نقول “لو تلعب اسرائيل ضدّ مصر، نشجّع اسرائيل”. لكنّ هذه الحساسيّة أبعد ما تكون عن الغبطة أو الغيرة البريئة.
أدركت مع النّضج أنّ هناك شرخا في ما يخصّ علاقتنا كتونسيّين بمصر، وأغلب الظّنّ أنّه ناتج عن خليط نفسيّ سياسيّ. ربّما لأنّ النّظام المصريّ بعد 1952 كان في تنافس مع النّظام التّونسي، أو أنّه كان صراع الزّعامة بين ناصر وبورقيبة فالأوّل سرق الضّوء من الجميع في تلك الفترة من التّاريخ، وهذا ممّا ساء بورقيبة الذي كان معتدّا بنفسه، حداثيّا مثقّفا ورئيسا مدنيّا ذو تاريخ نضاليّ ومسيرة علميّة على عكس ناصر الذي كان عسكريّا أكثر انشدادا للطّبقة التي خرج منها وصريحا في إيمانه بالعروبة وسعيه للوحدة وهي طروحات لم تكن تماما ضمن الأفكار البورقيبيّة. وليتأجّج الصّراع أكثر صفّى بورقيبة خصمه السّياسيّ الأبرز “صالح بن يوسف” الذي كان قوميّا وحدويّا متأثّرا ومناصرا لأفكار ناصر الغريم السّياسيّ. تختلط الأمور أكثر بقمع ناصر للإسلاميين واليساريين ليبقى هذا الإرث من الحقد حاضرا في نفوس الإسلاميين التّونسيين وأبنائهم حتّى الزّمن الحاضر وهو يعادل حقدهم على بورقيبة وبن علي من بعده وقد فعلا ذات الشّيء.
مصر وتونس وفلسطين:
المهمّ في كلّ تاريخ التّنافس، أنّ طرح تونس في ما يخصّ القضايا العربيّة لم يكن يلقى اهتماما كما طروحات مصر. أضف إلى ذلك أنّ تعاطي الأنظمة العالميّة مع بلادنا لا يكاد يُذكر بل ولا أذكر تفصيلا واحدا في هذا الإطار، غير أنّ العالم شرقا وغربا يهتمّ لمصر ويوليها مكانة. كنت أسمع أنّ “مصر قلب الأمّة”، “مصر بوّابة الشّرق”، “مصر هوليود الشّرق” .. حتّى أنّ غيفارا وسارتر ودي بوفوار ولامرتين ولست أدري من قد زاروا مصر. مصر خاضت حربا وقادتها ضدّ اسرائيل، مصر منها المشير عامر وسعد الشاذلي والسادات وسليمان خاطر وقصص كثيرة متناقضة عن حرب العبور وقبلها النّكسة وغيرها.. كامب ديفيد، التّطبيع وزيارة القدس المحتلّة. من أين لي أن أجد تاريخا حافلا كهذا؟ فحتّى من ناضل واستشهد ضدّ الاستعمار الفرنسيّ قد مُسح من التّاريخ الذي درستُ، دعم ومساندة الثورة الجزائريّة أمور غائمة تتلخّص عندي في “اختلطت الدّماء في ساقية سيدي يوسف”، دعم القضيّة الفلسطينيّة واحتضانها أشبه بعبارة صمّاء بلا تفاصيل غير أنّ طائرات اسرائيليّة قد قصفت مدينة حمّام الشّط التونسيّة لتصفية قادة منظّمة التحرير الفلسطينيّة وهذي أمور لا يعرفها إلّا من اهتمّ وبحث، لا أذكر أنّي صادفتها في دروس أو في حديث عاديّ.
لم أبحث عن مصريّين أبدا حين بدأت أبحر على النت، بحثت عن فلسطينيّين. ففي ذهني “يحبّ الفلسطينيون والجزائريون التّوانسة وكذلك نفعل نحن”. المصريّون لا يُحتملون، هذا ما ستسمعه إذا ما سألت الشّباب التونسي غالبا. وفي ذهن عموم الشّعب أشياء من قبيل “المصري يتولد يرقص ويغنّي ويضحّك”، “مصر فيها برشا فقراء”، “مصر يجي 100 مليون، كيفاش عايشين؟”، “مصر أمّ كلثوم”.. كنت مغاربيّة في نفور من المشرقيّين متمثّلين إجمالا في المصريّين، لكنّ في أعماقي حبّ لهذه البلاد ترسّخ أكثر بميولي القوميّة الوحدويّة، ربّما كانت فلسطين فيه حلقة الوصل. أصبحت أيضا أجد في أمور من قبيل “أكبر أرشيف من أغاني شيخ إمام في تونس” و”الصّوت التونسي الفلاني يتألّق في مصر” ما يرقّع شعور النّفور بطريقة عكسيّة. ملت أكثر لوجهِ مصر الجنوبيّ، لأغاني منير النّوبيّة ولكتابات نوال السعداوي وهي الصّعيديّة. بدأت أستعيد قربي من مصر التي أحببتها في الرّوايات والمسلسلات، حتّى قامت الثّورة.
ثورة 25 يناير :
الثّورة في تونس صالحتني وبلدي الذي لطالما شعرت بأنّي مظلومة في تاريخه وحاضره، لا أجدني ومن يشبهني أبدا. فأبناء الطّبقات الدنيا من المجتمع يسقطون من صفحات التّاريخ، غالبا. استعدت أيضا ثقتي في شعبي كشعب فاعل وذو أثر، خاصّة وأنا أرى شرارات الثّورة تمتدّ في البلاد العربيّة. تونس أشرقت ثائرة ليبلغ نورها كلّ العرب ونسمع الهتافات في مصر “لا توريث ولا تمديد كلّنا سيدي بوزيد”، لا أزال أذكر أعلام “حركة كفاية” في وقفتها أمام السفارة التّونسيّة. “ثورة ثورة حتّى النصر، ثورة تونس ثورة مصر”، “الإجابة تونس”.. الهتافات الغاضبة من حناجر شباب مصر في ميادين الثّورة في تفاعل مع هتافات شباب تونس كسرت الجليد الذي غلّف علاقات شباب البلدين. ثورة 25 يناير رأبت صدعا خلقته الأنظمة ورعته وحرصت على تعميقه، فما كان يعانيه الشاب التّونسيّ كان يعانيه المصريّ، بل وينسحب الأمر على الشّعبين عموما غير أنّنا لم نكن نرى ما يجب أن نراه لندرك هذا.
في ذكرى “25 يناير مصر” الخامسة، أشعر أنّ شباب البلدين أقرب فقد بتنا نحمل تقريبا ذات الهمّ. فمن خرج ضدّ الأنظمة وبدا له أنّه أسقطها، صُدِم بحقيقة عودتها. ورغم التّفاوت في حدّة الصّدمة لاختلاف المسارين الثّوريين في تونس ومصر، إلّا أنّنا هنا وهناك ننازل القديم بوجه أبشع مصريّا ربّما ولكنّه عارٍ. يعيش المصريّون يناير الثّورة بنشطاء يملأون السّجون وشبه غياب لنخبة سياسيّة عرفناها في أوّل سنوات الثّورة، ونعيش معهم خليط مشاعر يغالب فيه الغضب الخيبة. في ظلّ نظام عسكريّ بيد حديديّة تحاصر أيّة محاولة لإحياء الذكرى، تطالعني صور صديقي المصريّ يحيي مع أبويه ذكرى الثّورة بكلّ فخر. تطالعني أيضا صورة للنّاشطة “سناء سيف” تسير كما اعتادت كلّ سنة من مصطفى محمود حتّى ميدان التّحرير. وحيدة، نعم.. صامتة، نعم.. لكنّها تحمل على ظهرها أملا ووعدا ثوريّا :”لسّاها ثورة يناير”. لا يسعني إلّا أن أقول معقّبة، يناير العظيم.. شكرا لأنّك أعدتني لحبّ مصر، بوعي أكبر.. شكرا على أمل كبير -رغم كلّ شيء لا يزال حيّا- بغد أفضل لوطني العربيّ.
اضف تعليق