لا أعلم إن كان في الحنين إلى الماضى شيء من الاكئتاب أو أنّه طيف من أطياف تعذيب النفس أو هو جزء من شخصيّتي سيظل إلى آخر نفس في حياتي يطلّ كشبح يفرض ظلامه فرضا. أقلّب الذّكريات في رأسي كتقليب السّكر في قاع كوب الشّاي الصباحىيّ، ولكنّ الذكريات للأسف تضفى مرارة جديدة إلى مرارة الحياة .
أحنّ إلى أيّام كنت فيها طفلا صغيرا يلعب في ساحة بيت جدّتى لأمي. أداعب الدّجاج النّشيط وأطارد الديك الشركسي وأهرب من ذكر البطّ الشّرس الذي لا يكفّ عن مهاجمة الجميع إلّا جدّتي. أشتاق إلى صوتها الخفيض وهي تدلّلني بـ”حمّود” وإلى حيائها النّادر الأصيل وهي تغطي وجهها عند ملاقاة الغريب. أجلس في حجرها ليلا بجوار “وابور جاز” أنهل الدفء منها لا منه.
أشتاق إلى جدّى ذو الهيبة العظيمة وهو يجلس كملك من ملوك إفريقيا القدماء، يضع الساق فوق السّاق و لـ”لشيشة/الأرجيلة” في فمه وصوت الكركرة العجيب يقطع صمت المكان. كنت أتأمّل الكركرة وأسرح في ميكانيكية تشغيل هذا الشّيء العجيب. أخذني الفضول مرّة ونفخت في الشّيشة حتّى صعد الماء إلى سطح الحجر وضربني جدي بعكّازه ضربه لن أنساها.
تشغلني هذه الذّكريات كل ليلة قبيل النوم ويصيبني حزن عميق. كيف أصبحت أنا؟! هذا الكائن شديد التعقيد بعد كل تلك البساطة. هذا الكائن الذي يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كالماء والهواء، يداعب الآلات ويطارد التّكنولوجيا الملعونة. يعبّر عن نفسه بكلمات معقّدة، بعد أن كانت الدنيا بأسرها تتلّون بألوان الفرح عندما ينجح في اللّعب بالطائرة الورقية. ليت الأيّام القديمة تعود وأعود معها صافي الذّهن مقبلا على الحياة.
اضف تعليق