أمّي نفسها أخش دنيا
وأنا باحلم..
أخش التاريخمن ديوان “الغريب”
من منطلق أنّ الحكم المطلق على الأشخاص خلل، وضعت آرائي المتضاربة حول شخصيّة “رامي يحيى” المنعكسة في كتابته جانبا. فأنا أتّفق مع بعض أفكاره بنفس قدر اختلافي مع البعض الأخر. وأحتار في تفسيره لبعض الأمور وأصفّق بشدّة لتفسيره لأمور أخرى. فكلّنا نزن العالم بمعارفنا ووعينا الخاصّ، وتلك حجة علينا ولا تمثّل غيرنا في شيء. أترككم الآن مع حوار حقيقي دون تخيّل معه، نتعرّف فيه على بعض أفكاره ونظرته الحرّة تجاه الكتابة والحياة. وإذا أحببنا التعرّف عليه أكثر يمكننا قراءته موزّعا على أربعة دواوين هي “صعلوك” (2006)، “الغريب” (2010)، “بأكّد جنوني” (2015) عن دار ميريت للنشر والتوزيع، و”كلام كريم”(2012) عن دار روافد للنشر والتوزيع، كما يمكننا قراءة مجموعته القصصيّة “أساطير”(2015) عن دار ابن رشد للنشر والتوزيع.
- لماذا أطلقت على نفسك لقب “صعلوك”، عنوان ديوانك الأوّل، وما هو مفهومك الخاصّ عن الصّعلكة؟
لم أطلق على نفسي أيّ ألقاب، الموضوع أنّ “صعلوك” هو اسم ديواني الأوّل الذي تقدّمت عن طريقه للعالم بصفتي شاعرا، مرة بحصوله على الجائزة المركزية للثّقافة الجماهيريّة ومرة أخرى بصدوره عن دار “ميريت” للنشر والتوزيع. ولأنّ الدّيوان تجربة ذاتية جدًا، وقصائده تعكس “مَرْمَطَة” وفقرا وتمرّدا واغترابا ووحدة شديدة، ولأننا نعشق الألقاب ونسعى دائمًا للتّنميط، التصق بي اسم الدّيوان كلقب، لدرجة أنّني استخدمته في الكتابة على عدد من المنتديات، كما أنشأت مدونة بعنوان “أوراق من دفتر صعلوك”.
- بالدّراسة صُنِّفت الصّعلكة كردّ فعل صادم يتّسم بالقسوة والعداوة ضدّ الأنظمة والمجتمعات، بالنّسبة لرامي ما هو الفعل الذي نتج عنه ردّ فعله الصّادم؟
كلّ شيء من حولنا يستحقّ التمرد عليه، من أوّل أسمائنا وحتى أنظمة الحكم مرورًا بمفاهيمنا عن الحياة وتفاصيلها المختلفة المادّية منها والفلسفيّة.
- لأنّنا نمرّ بمراحل مختلفة في العمر والتّجربة، أحيانا تكون المعارضة في البداية بغرض لفت الانتباه، هل مرّ رامي بتلك المرحلة، ومتى أدرك ذلك؟
بطبيعة الحال لا يقبل كلّ البشر الحياة في القطيع. وتظهر تساؤلات واعتراضات على أفكار وأحكام الأسلاف. وهذا تحديدًا هو دور المبدع في أيّ زمان أو مكان. ومن ضمن أسلحة أعداء التّطوير والتجديد وأنصار الثبات والموت على قيد الحياة، محاولة تشويه دعاة التّجديد والتّطوير، بل حتّى من يحاول مناقشة الأعراف والقوانيين والعادات والتّقاليد مناقشة موضوعية، لأنّ أيّ نقاش منطقيّ سيحوّل أغلب التّابوهات والأصنام الفكريّة إلى مسخرة يستحيل أن يقبل عاقلٌ الانصياع إليها، لهذا ظهرت مقولات مثل “خالف تُعرف”. وأعتقد أنّه مَثَلٌ وضعه المحافظون وتبنّاه الخانعون لسطوة الماضي والمنسحقين لأحكام الأسلاف وأفكارهم.
وأودّ أن أنبّه لتفصيلة نتعامل معها بوصفها من طبائع الأمور، تضمّ مجتمعاتنا العديد من المؤسّسات الرسمية والمستقلة والشخصيات العامّة علاوة على نصوص قانونية وأحيانًا دستورية تعمل جميعها على حماية أفكار ووجهات نظر تعود للماضي السّحيق، وتتوعد كلّ من يفكّر في طرحها للنقاش بالعقاب القانوني والمجتمعي والمعنوي.. وصولًا للتصفية الجسدية، بالمقابل أتساءل عن مدى الاهتمام بالتّجديد والتّطوير والعمل على اللحاق بركب الحضارة الحديثة؟
- متى تُحوِّل توجّهات الكُتّاب السياسيّة كتاباتهم إلى بوق سياسيّ؟
من الصّعب عَليّ حسم مسألة هل بدأ الشّعر في أحضان قادة القبائل والملوك والأمراء ثم تمرّد عليهم، أم بدأ حُرًّا ثم احتضن السّاسة والقادة بعض الشّعراء المواليين لهم، لكنّ المحسوم أنّ هناك شعراء كانوا يعيشون في بلاط الملوك مثل النابغة الذبياني والمتنبي وغيرهم، وشعراء آخرون خرجوا على كل الأعراف وتحدّوا المنظومة الاجتماعية مثل الشعراء الصّعاليك في العصر الجاهلي، ومثل عبد الحميد الديب وأمل دنقل ونجيب سرور وغيرهم في العصر الحديث.
في عصرنا الحديث أصبح تحوّلُ الكاتب لبوق سياسي فخّا يقع فيه الكاتب في بعض الحالات، كحالات الحرب أو الثّورات أو حالة صعود حكم ديكتاتوري “ديني كان أو عسكري”. في هذه الحالات ينقسم الكُتّاب إلى ثلاثة أقسام، قسم يتحوّل لبوق سياسي مُعارِض، فيفقد الكثير من شاعريّته ويكسب الكثير من احترام المعارضين/الثّوار، وقسم يتحوّل إلى بوق سياسي موالٍ للسّلطة الديكتاتورية، فيفقد أغلب شاعريّته وكل احترامه وإنسانيّته ويكسب مالا ونفوذا، أمّا القسم الثّالث فيبقى متمسّكا بالتّركيز على الكتابة -كالقابض على الجمر- بعيدا عن الصّراعات السياسيّة، فيكسب الكثير من الشاعريّة واحترام الذّات والجمهور المستقبليّ، وعلى مستوى حاضره يفقد كل شيء تقريبًا.
- صدر لك أربعة دواوين بالعاميّة المصريّة، منها ثلاثة دواوين على فترات متباعدة”صعلوك، الغريب، بأكّد جنوني”، وجاء ثلاثتهم في اتجاه الفضفضة والاعتراف الذاتيّ، ونجد أنّ مشاعرك قد تغلّفت بالوحدة والغربة وفقدان الشّعور بالحبّ والونس، ما هو دور الكتابة في معالجة تلك المشاعر؟
هناك فرق بين الأدب وبين جلسات العلاج أو الدّعم النفسي. رأيي أنّ الكتابة من هذا النوع هي محاولة لتحويل قبح الحياة لجمال، وغزل عبثيّتها في منطق شخصي لا يعيد ترتيب العالم لكن يساعد على خلق مشهد منطقي لمفردات وأبعاد الحالة العبثية، فتسهّل على القارئ رصد مدى عبثية العالم، وبالتّالي غالبا ما يتوقّف عن التّعامل مع هذه التفاصيل بوصفها عاديّات.
- معنى هذا أنّ الكتابة أداة رصدٍ للفت نظر القارئ؟
هي وسيلة للتّعبير عن مشاعري وآرائي وأفكاري، ووسيلة لما يمكن تسميته بردّ فعل شخصيّ تجاه العالم، وطبعًا استخدمها في الرّصد ولفت نظر القارئ. وهذا غالبًا خلال المقالات.
- الكتابة الصادمة لرامي وسيلة لتطهيره أم لارباك المتلقّي؟
هي المناسبة لي والقادرة على التّعبير عن مشاعري وأفكاري ورؤيتي للعالم.
- من عوالم كتابة “رامي” نكتشف أنّ همّه الإنسان البسيط الفقير الذي يشترك معه في التجربة والخلفية الاجتماعية هل هذا صحيح؟
الإنسان البسيط المسالم المحبّ للحياة. الفقر في حدّ ذاته لا يجعل الشخص جديرا بالانحياز له، فالفقراء الثائرون يُقتلون بأيدي فقراء خونة أو أغبياء أو.. أو.. أو.
الشِّعر.. حُبّ الناس.. الوحدة في الزحمة
أوّل علامات النبوّة
اللي عشانها سأجْعَلُ آيتي أَلاَّ أغنّي للنَّاسِ ثَلاثَ لَيَالٍ
وحِينَ أخرُجُ عَلَيْهم.. سَأرْقُصُ لَهُم وَحْيَامن ديوان كلام كريم
- إن كان صحيحا، ألم ترى أن جرأة تناول التّناص مع اللفظ القرآني في ديوان “كلام كريم”، يمكن أن يكون لصدمة تلقّيه ردّ فعل عكسي من ذلك الإنسان البسيط فيعزف عن قراءته، وبالتالي لا يحدث التأثير المرجوّ منه؟
الإنسان البسيط في مجتمعنا علاقته بالكتب واهية جدًا، وهذا واضح من أرقام توزيع الكتب، والشِّعر كسلعة في سوق الأدب ليست رائجة. وبالطبع، القراءة بشكل خاصّ والثقافة بشكل عام ليست على جدولنا كدولة. وهذا يمكن رصده ببساطة من مجرد مقارنة أعداد المكتبات العامة ومنافذ بيع الكتب ودور العرض بأعداد دور العبادة أو أقسام الشرطة أو السجون. بناء على ذلك فجمهور الشِعر هو جمهور نوعي. وأغلبهم يعرفون معنى التّناص، ولا أعتقد أن الكتابة بهذا الشكل “ممكن تخُضّهُم”. أمّا بعض المشايخ وأتباعهم، ففي كل أحوالهم، هم على استعداد للهجوم على أيّ شيء مخالف لمعارفهم. ومن المؤكد أنني لا أهتم بردود فعل من يعادون الاختلاف. يكفي أنّ أحد مشايخ السعودية وصل هجومه عليّ إلى حد التكفير بسبب إحدى قصائد الديوان. ولما بحثت عن اسمه ووصلت إلى موقع للفتاوى يحمل اسمه، أول فتوى وجدتها كانت “فتوى الأوبن بوفيه”.
هذا طبعًا غير من ينكرون كرويّة الأرض أو دورانها حول الشمس أو.. أو.. كالشّيخ بن باز، مفتي مملكة آل سعود سابقًا، أو تلامذته وأتباعه.. بل وأسلافه، لهذا لا أهتمّ بكلام هؤلاء البشر ولا آخذ أفكارهم وهجومهم على محمل الجدّ. ليس من المنطقيّ أن يهتم أنصار الحياة بدعاة الموت. وفي ختام هذه النّقطة، أشير إلى أنّه من واجب هؤلاء العمل على مواجهة الجماعات الإرهابية التي تقتل آلاف البشر وتدمّر ذاكرة الإنسانية باسم الإسلام، فهذا أهمّ بكثير من سيل الفتاوى التي تحرّم القيادة للسيدات أو تجريم “الشات” عبر الأثير بين الجنسين أو تفنيد رأي الإسلام في “الأوبن بوفيه”.
- معنى هذا أنك تكتب لهذا الجمهور النوعي، وبالتالي تصبح الأفكار الصادمة والقيم الإنسانية الكبرى فيما تكتب مجرد كلام غير مفعّل، فما الفائدة إذن من الكتابة؟
أثر الفراشة، كرة الثّلج، هذا الجمهور يكبر كمًّا وكيفًا بشكل أو بآخر. والكتابة تُكسِب جمهورا إضافيا، بسبب زيادة السكان أو بسبب التطور التكنولوجي أو السّببين معًا. المهم في النهاية أن الجمهور يزيد ببطئ، والكتابة تعني للكلمة/الفكرة الخلود. فمن الوارد جدًا أن التّأثر بكلمة أو فكرة ما يكون بعد تقديمها بمدة زمنية. فمثلًا فكرة الاحتجاج السّياسي عن طريق حمل البالونات كانت فكرة أطلقتها سنة 2008، وحينها كانت ملفتة للنّظر رغم أنّها لم تلقى اهتماما كبيرا. ومؤخّرًا قرأت أن هناك مجموعة سياسية دعت للاحتجاج عن طريق نفس الفكرة. بالإضافة إلى كثير من الأفكار التي انتشرت بقوة بعد سنين طويلة من طرحها لأول مرة، أنا شخصيًا حضرت مظاهرات كل أفرادها يسلّمون على بعضهم البعض باليد. وحضرت ثورة يناير العظيمة وشاهدت الملايين من البشر في الشوارع لتسقط مبارك ومن بعده تجبر المجلس العسكري على إجراء انتخابات رئاسية ثم تطيح بالإخوان المسلمين، كلّ هذا في ثلاث سنوات.
- كتبت السيناريو لفيلمين قصيرين، ومجموعة قصصية وبعض الأغنيات ومقالات الرأي في مواقع مختلفة، بعيدا عن كتابة الشعر، لماذا، وما هي فائدة تنوع مجالات الكتابة ما بين الشعر والسرد في تجربة شاعر؟
أنا ككاتب، مادتي التي أعرفها وأملك القدرة على تشكيلها هي الكلمة لذا استخدمها بكل الطرق الممكنة، حتى أني أحيانًا كنت أكتب الشعارات التي أرددها في المظاهرات، كما أن تنوع أشكال الكتابة يعني الوصول لجمهور أكثر تنوعًا، وبالطبع يعني فرص عمل أكثر وبالتالي زيادة احتمالية الوصول لدخل إنساني.
- الكتابة في مصر ليست مصدرا للرّزق إلّا في إطار توجهّات أصحاب رؤوس الأموال من النّاشرين، كيف تتحايل على ذلك لتكتب ما تؤمن به، وهل تكتب بحرية مطلقة؟
يوجد حيلتان “مافيش” غيرهم، الكتابة السّاخرة أو اللّجوء لأي أعمال بعيدة عن الكتابة للحصول على مال يكفي الاحتياجات الأساسية، وبشكل عام أنا شخص فقير وشبه معدم أغلب الوقت.
- أنت تكتب قصيدة “نثر” بالعاميّة المصرية، ويوجد في بعض قصائدك توضيح لمفهومك عن الشّعر، هل واجهت رفضا ونقدا ممن يرفضون قصيدة النثر، خاصّة إن كانت بالعامّية؟
لجنة الشِّعر بالمجلس الأعلى للثقافة ترأّسها الشّاعر الكبير عبد المعطي حجازي، من قديم الأزل، وهو من خاض في شبابه معركة الدفاع عن “قصيدة التّفعلية” في مواجهة الأديب الكبير عبّاس العقاد الذي رفض الاعتراف بأنّها شكل متطوّر من أشكال الشِّعر، وأحال قصائد التّفعيلة للجنة النّثر. وانتهت المعركة العبثيّة بانتصار التّجديد على حرس الثّباتّ. والآن، تحوّل شباب الأمس أبطال معركة التّغيير إلى حرس للثبات. هذا بخصوص شكل القصيدة، أمّا بالنّسبة للغة الكتابة فالوضع أسوء بكثير، فالعامية المصرية التي قدّمت سلسلة من أهمّ شعراء مصر يتمّ التعامل معها بوصفها لغة درجة ثانية لصالح لغة لا يستخدمها المصريّون في حياتهم وأغلبهم يواجهون صعوبات حقيقية في استخدامها.
- ألا ترى أنّ في حصول ديوانك الأوّل “صعلوك” على جائزة الثقافة الجماهيرية دعما من مؤسسات الدولة الرسمية ينافي فكرة الجمود التي تشير إليها؟
لا.
- هل كُتبت قراءات نقديّة جادّة لدواوينك، ورأيك في طريقة النقاد في تناول نصوصك؟
الكتابات النقدية عن ما أكتب أو عن قصيدة النثر قليلة بشكل عام. وهذا يرجع لهيمنة العقول الجامدة على المشهد الثقافي في مصر، وعلى مختلف المجالات. فنحن نعيش أزمة نقد في حياتنا كلّها، والنظام التعليمي من أساسه قائم على التلقين ويستحيل أن ينتج أيّة عقلية نقدية، بل هو بالعكس قادر على قتل أيّ توجه نقدي عند أيّ إنسان، وبالتالي النّاجون بعقولهم من مأساتنا التعليمية قليلون جدًا.
- هل لديك رؤية مستقبلية لمشروع أدبي خاص بك، وبعد كتابة السيناريو والقصة القصيرة، هل تفكر في كتابة الرواية؟
حاليًا أعمل على مجموعة قصصية ثانية ستصدر قريبا عن دار ميريت للنشر والتوزيع، تحديدا في معرض الكتاب القادم، وهي عبارة عن مجموعة حكايات من حياتي، ولكن لم يتمّ الاتفاق النهائي حتى الآن على اسمها، كما أنّ هناك بالفعل مشروع لكتابة رواية لكنني لا أحب الحديث عن أبعاده الآن.
——————————————
في الختام وجب أن أنوّه أنّ الكتابة باللغة العربية الفصحى في هذا الحوار كانت لتسهيل القراءة على القرّاء من خارج مصر، فاللغة العربية الفصحى ليست لغتي ولا أحبّ استخدامها لأنّني أشك في قدرتي على توصيل ما أريد بها، عكس اللغة العامية المصرية التي أستخدمها بمنتهى البساطة وأرى أنها قادرة على التعبير عني وعن أفكاري وأحاسيسي بسهولة ودقة.
اضف تعليق