“ماتتْ الشمسُ،
ماتتْ الشمسُ، وغدًا
لن يبقى لها في ذاكرة الأطفالِ،
سوى مفهومٍ أخرسٍ ضائعٍ،
و في كرّاساتهم المدرسيّة،
سوف يصوّرون غرابةَ هذا اللفظ القديم:
نقطةٌ سميكةٌ سوداء.”
فروغ فرُّخزاد، 1964
***
“ذكرى الشّمس، تخفِتُ
في القلب.
مـــا هذا؟ أهي الظُلمة؟
أهذا ممكن؟ أن يأتينــا الشتــاءُ
بليلةٍ واحدة!”
آنّـا أخماتوڤا، 1911
«أنا لستُ شاعرةً؛ بل أنا شاعرٌ!» — في رسالةٍ أرسلتْها الشاعرة الروسيّة «مارينا تسڤيتايڤا» عام 1934 إلى صديقها الناقد «ي. إيڤاسك» قالت: “إنّ كلّ مـــا كـــــان معي وحصل لي، كامنٌ في داخلي منذ البداية الأولى: منذ طفولتي، منذ ميلادي، من قبل ميلادي، من قبل نيّة أمّي، التي كانت تريد ذكرًا تسميّه ألكساندر.. لهذا، أنا جئتُ للعالم كشاعر، وليس كشاعرة. سأظلُّ شاعرًا حتى الفَواق الذي يسبق موتي!” هكذا شعرتْ مارينا بنفسها، فهمتْ قدر نفسها؛ فلم تستطع بأن تسمح بإدراج قصائدها تحت مسمى “الشّعر النسائي”. إلا أنّ الكثير من الشّعراء ليسوا متفقين مع تقسيم الفنانين إلى قسميْن وفقـًا للجنس، معتقدين أنّ الإنسان الذي تمكّن من بلوغ مرتبة سامقة في الفنّ، قد تجاوز فعليـًا الحدودَ الجندريّة. تقول «فرُّخزاد»: “أيًّا كـــــانت الهويّة الجنسيّة التي ينتمي إليها الفنّان، ينبغي عليه في المقام الأوّل أن يشكّل الجوانب الإيجابيّة لوجوده؛ لكي يدرك القيم الإنسانيّة السّامقة، ولكي يصبح الإنسانُ إنسانـًا، وليس رجلاً أو امرأةً.” بغض النظر عن رؤيتيْ الشاعرتيْن الإيرانيّة والروسيّة؛ فإنّ الفنّان يُقدَّر بإسهامه في رصيد الفنّ الإنسانيّ، دون الاهتمام كثيرًا بجنسه. وإن كـــــان عددُ مـــا وصل إلينا من قصائدٍ لنساء شاعرات قليلًا على مرّ التاريخ –الذي يُعزى قلّته إلى العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة المختلفة للمجتمعات– فهذا لا ينقص من الحضور الدائم للشاعرات في المشهد التاريخيّ.
«آنـّا أخماتوڤا» و «فروغ فرّخزاد» شاعرتان، الأولى روسيّة والأخيرة إيرانيّة، رحلتا عن عالمنا بالعقد نفسه في فصل الشتاء. فالأولى توفّيت في مصحّة «دوموديدوفي» بضواحي موسكو عام 1966، أمّا الأخيرة فقد لقت مصرعَها بحادث سير –بعدما حاولتْ تفادي حافلة مدرسة– قبل أن تصل إلى المشفى عام 1967. بِعقد مقارنة بين الشاعرتيْن، يتضح التشابه الكبير على المستوييْن الحياتيّ والإبداعيّ: كلتاهما عانتا من فراق ابنيْهما. ابن الأولى أصبح سجينـًا سياسيـًا إبان فترة دراسته، أمّا ابن الأخيرة فقد أخذه زوجها بعد انفصالها عنه. كلتاهما تركتا بصمةً وضيئةً ليس فقط في أدب بلادهما، بل في الأدب العالميّ. أظهرتْ أخماتوڤا القوّة الحقيقيّة للشعر الروسيّ الكلاسيكيّ. فرّخزاد شاعرة «الموجة الجديدة»، التي كتبت روائعها الغنائيّة «بالقصيدة البيضاء».
قصائد الشاعرتيْن تصوّر، بلغةٍ شاعريّةٍ رهيفةٍ، العالم الداخلي للمرأة الشابة. صوتهما مسموع، وكلماتهما صادقة وشفافة. عالمهما الداخليّ ممتلئ بالمشاعر الصريعة و الوليدة. على الرغم من أنّ كلّ مـــا تناولتاه معروف ومعتاد، إلّا أنّهما افتتحتا عوالم جديدة وغير مطروقة تمامـًا، جعلتنا نتراجع عن فكرتيْ «معروف» و «معتاد». إنّ نظرة واحدة في عمق قصائد «آنـّا» و «فروغ» التي تعكس التقلّبات الباطنيّة العديدة للمرأة، تجعلنا نكتشف موضوعاتهما المتوازية: الألم، الحزن، القلق، الشّتات، التحمّل، العواطف الجامحة، القيود. فعند قراءة سطور قصائدهما يصبح مفهومـًا أن النّبع الذي نهلتا منه هو حياتهما الشخصيّة، الواقعيّة، الأليمة. إنهما يحكيان عن الموت، الصداقة، الحبّ، التألّم، الرّجال، الأطفال.
القصيدةُ عند «فروغ» هي وسيلةٌ لتمثيل المعاناة. إنّها مرتبطة بكلّ روحها بابنها الصغير، الذي تم إبعاده عنها. زواجُها كـــــان تعيسـًا. تزوّجتْ في سن السابعة عشرة، بينما «آنـّا» تزوجت في سن الحادية والعشرين. كلتاهما نشرتا مجموعة قصائدهما الأولى في شبابهما. تقول «فروغ»: “إنّني أحبّ أكثر من أيّ شيء مهنتي كشاعرة، وأقدّرها فوق كلّ شيء. بعد ذلك، ابني. حلمي أن يصبح ابني عندما يكبر شاعرًا أو كاتبـًا.” إنّ أكثرية القصائد التي كتبتْها «آنـّا» أهدتها إلى ابنها، القابع في السجن. حيث تقول موجهةً كلامها لمن حبسوه:
“فلتفلح في تحقيق غاياتك أيها المُحقق العنيف،
حتى لتصل إلى سهول «ينيسيس»..
بالنسبة لك، هو متشرّد، مُحتال، متآمر.
أمّا بالنسبة لي، فهو ابني الوحيد!”
زواجهما كـــــان غير موفق، لقد أحبّ «آنـّا» الكثيرُ من الرجال؛ إلا أن زيجاتها الثّلاث اختتمت بالتّعاسة. فقد كـــــان «غوميليوف» غير مخلص، و«شيليكو» عالمـًا قاسيـًا، أمّا زوجها الأخير «پونين» طاغيـًا. في واحدةٍ من أكثر القصائد أصالةً بأدب «أخماتوڤا»، ترسم ببراعةٍ صورةً مبسّطةً لعلاقتها مع زوجها حيث تقول:
“كـــــان يحبّ ثلاثةَ أشياء في الحياة:
أغاني المساء، و الطواويس البيضاء،
و خرائط أمريكا المُهترئة.
لم يكن يحبّ عويل الأطفال،
و لا الشاي بالتوت، و لا الهيستيريا النسائيّة،
و… كنتُ أنا زوجته.”
إنَّ للحبّ مكانةً واضحةً عند كلٍ من «آنـّا» و «فروغ». ففي رأي الإيرانيّة: أن تكون محبوبـًا، وأن تحبّ، يعني أن تكون أبديـًا، أن تستمر بالحياة. الحبّ هو الشعور بالحياة، بالاستمرار، بالبقاء، إنه الشعور الواسع:
“تحدّثْ معي،
قلْ أيَّ شيء،
أوَ ليست التي تهــبُك
اللطفَ لجسدك الحيّ،
تريد منكَ شيئـًا آخر،
يؤكد لها على أنها حيّة؟”
قصائد الروسيّة والإيرانيّة حيّة، سطورها تتنفّس، لغتها تجعل أثاث منزلهما يشاركهما أساهما وأحزانهما. إنهما تبحثان عن تحقيق الغاية المثلى من أمانيهما، وفي طريقهما نحو ذلك، تتكشّف لنا آفاق، أوصاف مُبهجة في كثير من الأحيان للطبيعة. يشعر قارئ سطورهما بالصّدق، إنها نابعة من إخلاص روحيْهما المعذبتيْن. كلتاهما تتحدثان عن ماضيهما المُر، لتصنعا لنفسيْها مكانتيْهما المُستحقة في ساحة الأدب المعاصر. كلتاهما تكتبان عن الطريق لفهم الحياة الداخليّة للإنسان. كلتاهما تعبّران عن الأفكار والمشاعر بلغة بسيطةٍ، بدون مُحسنّات بديعيّة مُبتذلة أو حالات عاطفيّة مُفتعلة يتم تمريرها إلى القارئ. قصائدهما غنيّة بالاستعارات والصّور الجماليّة التي ليست اختلاقـًا من خيالهما، بل تحمل هذه الصور عَلاقة وثيقة بالواقع المحيط، يمكن معها سماع أصوات الطبيعة، خرير الماء، حفيف أوراق الأشجار، ضوضاء الطّرقات، شدو العصافير. إنهما يصوّران العالم بعيونهما.
عند تناول أشعارهما، يتجلّى بلا أيّ عناء، الموضوعات المُشتركة، التي تنعكس في حياة كلّ امرأة، والتي تعطي صورةً أكثر وضوحـًا للمرأة المنتفضة ضد تقاليد المجتمع المتزمّتة (اشتراك الروسيّة في تأسيس مدرسة الذورة في الشعر الروسيّ، وانضام الإيرانيّة لاجتماعات الشّعراء الثّوريّين)، تكشف لنا كذلك الاعتمالات الباطنيّة للمرأة، والدّقائق الحرجة في حياتها. فعلى الرغم من اختلاف لغتيْهما الأدبيّتيْن، اللتين كتبتا بهما، فإنهما التقتا عند «مواضِع النّزف» النسائي، في تعبيرهما عن «موت الشمس» و «خفوت ذكرى الشمس».
المصادر:
- http://moscow.icro.ir/uploads/karavan_zanan1.pdf
- http://russian.irib.ir/analitika/reportazh/item/179306-%C2%AB%D1%8F-%D0%BD%D0%B5-%D0%BF%D0%BE%D1%8D%D1%82%D0%B5%D1%81%D1%81%D0%B0-%D1%8F-%E2%80%93-%D0%BF%D0%BE%D1%8D%D1%82-%C2%BB
- https://otvet.mail.ru/question/48259577
- https://en.wikipedia.org/wiki/Anna_Akhmatova
- https://en.wikipedia.org/wiki/Forough_Farrokhzad
- ديوان «تشرق الشمس» فروغ فرخزاد، ت. محمد اللوزي، ط. أفريقيا الشرق.
- http://www.poemhunter.com/poem/memory-of-sun/