«والدي العزيز،
لقد سألتَني مؤخرًا، لمـــاذا أقول أنّني خائفٌ. كالعادة، فأنا لم أستطع أن أجيبك؛ بسبب الخوف بعض الشيء منكَ، وبسبب أنّه يتطلب منّي لإيضاح ذلك الخوف الكثيرُ من التفاصيل، التي ليس في وسعي أن أذكرها في حديث. (…) أنا لم أتحدّث معكَ بصراحةٍ من قبل، لم أدخل إلى مَعبدكَ، لم أدعُكَ لتزورني في (فرانتسينسباد/Franzensbad) من قبل، وبشكل عام، لم أظهرْ لكَ أيّة مشاعر حميمة..»
فرانتس كافكا، نوڤمبر 1919
“والدي العزيز،
هذه الرسالة لكَ خصوصًـا. أنتَ لست أقرب لي من والدتي، لكنّني أشبهكَ أكثر ممّ أشبهها. وفي هذه الرسالة –أنا لا أعرف بعدُ إن كان سينجح الأمر– أنا تقريبًـا أتحدث مع نفسي. (…) والدي العزيز، أنا خائفٌ.”
بوريس پاسترناك، مايو 1916
رسالتان، من ابنيْن، إلى والديْن، الفارق الزمنيّ بين كتابتيْهما هو ثلاث سنوات. لكن بوْن شاسع بين مصيرهما وتأثيرهما في الأدب العالمي! رسالة پاسترناك وصلت إلى المُرسل إليه، أمّا رسالة كافكا فلم تصل. إلّا أنّ رسالة الأخير قد لاقت شهرةً واسعة منذ عام 1952، في حين قد نُشرت رسالة الأوّل على صفحات مجلة (زناميا) من وقت غير بعيد من رسالة الأخير. يمكننا الشعور بأن رسالتيْ كافكا وپاسترناك متشابهتان إلى حد غريب بمجرد قراءة سطورهما الأولى بشكل متوازي. الأمر لا يتعلق فقط بتشابه موضوعيْهما، وإشكالياتهما في صراع الحياة اليوميّة، بل في هذه التيمة الميتافيزيقيّة الخاصة، التي ظهرت كنوع أدبيّ جديد على يديْهما ألا وهي “رسالة الابن إلى والده”.
الفكرة التي عالجها (سورين كيركغارد) لفهم مغزى قصة (إبراهيم وإسحاق)، قدّمت لكافكا تفاصيل واضحة حاول من خلالها حلّ صراعه مع والده. هكذا، حدته الرغبة للبت في إيضاح علاقته مع والده من خلال رؤيتها وتقييمها من قمة جبليّة عالية. (إبراهيم) يحبّ ابنه للغاية، لكنه كـــــان مستعدًا للتضحية به باسم الإيمان. والد كافكا على الرغم من حبّه لابنه، كـــــان يذيقه وبال اللّوم والسّخرية والازدراء، كأنّه كـــــان مستعدًا كذلك للتضحية بابنه. الأمر مـــا يزال غامضـًا؟ أجل، كـــــان كافكا مستعدًا أن يكون (إسحاقـًا)، متحملاً كلّ أنواع الإهانة والإذلال، ليكون قربانـًا، إذا مـــا كـــــان هذا مـــا يتطلّبه الأمر لتحقيق الهدف الإيمانيّ السامي. لكنّ هذا لم يحدث! فلقد كـــــان هناك تفاوت كبير بين (إبراهيم) و والد كافكا!
كلا الكاتبيْن يكتبان عن الخوف، الذي هو أقرب إلى خوف الأبناء. لكن تختلف أسباب كلّ منهما. إنّ صراعات قلب كافكا المختنقة، تتركّز على شخصية الوالد السلطويّة والمسيطرة، حيث يتوجه إلى والده مخاطبـًا باستخدام الضمير (أنتَ/You) بحرف كبير، كأنّه يتوجه إلى الإله، لكنه الإله المتجبر، الإله/الأب الذي قدّم ابنَه قربانـًا. بينما پاسترناك لا يتحدّث مع والده في المقام الأوّل، بل مع نفسه، وفي وسعه أن يفصح عن كلّ مـــا يرعبه.
خوف پاسترناك يحمل في داخله سمة وجوديّة مختلفة، التي تشبه بشكل ما فكرة (كيركغارد) في قصة (الخوف والإرتجاف)، حيث يعقد مقارنةً بين الوالد والابن، من الممكن أن تشابه حوار (إسحاق) مع (إبراهيم). يخاطب پاسترناك والده:«أنا أتحدّث مع نفسي تقريبـًا.» «رسالتي تُدعى الخوف. الخوف هو الشعور الطفوليّ. تذكرتُ بفرح هذه السّعادة الممنوحة لي: أن أحكي لكَ عن كلّ شيء، عمّ يخيفني.» الشيء الوحيد الذي يقلقه هو عدم قدرته على تصوير صورة حالته النفسيّة بشكل كامل:«مـــا أريد أن أتحدث عنه يتجاوز كثيرا قدرة ذاكرتي وعقلي.»بالطّبع قد تكون فرصة الحصول على حوار متكافئ بينهما كبيرةً، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ (بوريس) ووالده (ليونيد) كانا على درجة كبيرة من التعلّم والحسّ الفني العالي؛ ممّ يمكّنهما من فهم بعضهما بأقلّ كلمة وأقلّ همسة.
إنّ طريقة التعبير عن (الفدائيّة) عند كافكا وپاسترناك لا يمكن التّغاضي عنها. هل يسعى الآباء لارتكاب فعل فداء مشترك مع أبنائهم لتحقيق نتيجة إبداعية في النهاية، أم لقلب المذبح وقتل الضحية؟ يؤكد كافكا على أنّه من أيام طفولته كانت ممارسات الوالد لا تخرج عن السباب والتهديد والسخرية والازدراء. بعد نجاح والد كافكا في التّجارة، شعر السيد هيرمان كافكا بنفسه وكأنّه الواهب للحياة والموت؛ لأن «بدا للابن أنه بفضل رحمتكَ قد حفظتَ حياته، حتى اعتبر ذلك نعمة غير مستحقة منكَ.»
كافكا وپاسترناك يتفقان مع بعضهما البعض على فكرة (الفداء) المتأصّلة في نفسيْهما. كافكا يصف نفسه «بأنّه الأدب»، بينما پاسترناك يربط نفسه دومـًا بالشعر. والدا كافكا لم يدعما أبدًا موهبته؛ فـبيت كافكا الأسريّ كـــــان دائمـًا مرتعـًا للضحكات الساخرة، والتهديدات والشتائم. والد پاسترناك كـــــان يقدّر الشعر والموسيقى والفن. لكن پاسترناك مثل كافكا، كـــــان ينتفض ضد كلّ التقاليد المتزمّتة في العلاقات الأبويّة.
رسالة إلى الوالد— ليست فقط رغبة في إفراغ تشنجات نفس الابن، بقدر مـــا هي رغبة كذلك في إسماعه كلّ كلمة حتى النهاية. فلو كـــــان حديثـًا وجهـًا لوجه مع الوالد، فربما ضربه، أو على الأقل، سخر منه أشدّ سخرية. أمّا الرسالة، من وجهة نظر الابن، فهي قراءة حقيقيّة حتى الكلمة الأخيرة، حتى لــــو كانت قراءة عابرة بدافع الفضول. في الأخير، كافكا لم يرسل رسالته بالبريد، مم خلّف موجةً من التردد في إرسالها إلى المقصود منها. توجه الابن إلى الأم، التي كانت تعتقد أن تسليم رسالةً كتلك قد تزيد الأمر تفاقمـًا؛ ممّ جعلها لا تقومبهذه المَهمة. هكذا، وعن غير قصد، توجهت رسالةُ كافكا إلى الأدب الإنسانيّ العالميّ.
على النقيض، فقد وصلتْ رسالةُپاسترناك إلى المرسل إليه بدون أيّة وسيلة، واستقرت في أرشيف العائلة؛ ممّ جعلها تصل إلى جمهور القراء بعد تأخر طويل. لكنّ الشاعر الروسي عانى بعض التردد حول مدى ملائمة إرسال اعترافه: «أنا لا أريد إعادة قراءة مـــا كتبته؛ كيلا أشعر بالخجل الكاذب ممّ حكيته.»، إلا أنّ رغبة الشاعر للوصول إلى تفاهم مشترك مع الوالد كانت أقوى: «أنا لستُ نادمـًا أنّني كتبتُ لكَ هذه الرسالة.» سطور رسائل پاسترناك تتنفس بالحنان إلى هذا الوالد الغريب عنه، والقريب منه بدافع النسب: «أنا أحبّكَ مثل ابن زنجي يحبّ والديْه في مجتمع مليء بذوي البشرة البيضاء.. مثل من يحبّ مزارًا مهجورًا؛ ليحوّلهإلى مزار سياحيّ جاذب.»
كتب الشاعر الروسيّ أنه لم يكن يتأثر بوالده في سني طفولته. بينما ذكريات كافكا اتسمت بالمرارة والاستسلام أمام الظروف، يقول كافكا مخاطبـًا والده: «أنتَ قمتَ بالتأثير فيّ؛ لأنّه كـــــان يجب أن تؤثر فيّ. لكنّ لا تعتقد أنه بسبب مكر مـــا منّي؛ قد خضعتُ لتأثيركَ فيّ.»يمكن القول، أن كلّ أعمال الكاتب التشيكي كانت موجهةً بشكل مستتر إلى والده: «في كتاباتي، الحديث يدور عنكَ أنتَ، لقد بثثــتُ فيها كلّ شكوايّ، التي لم أستطع أن أبثـّها فوق صدركَ.»
لــــو أحدثنا خلطـًا بين سطور الرسالتيْن، فيمكن أن تحل تعبيرات (بوريس پاسترناك) إلى والده (ليونيد)، بلا ريب، محلّ رسالة كافكا لوالده: «التواصل معكَ صار بالنسبة لي حاجةً، بسبب شكله غير الطبيعي، فقد أخذ شكل المرض.» ثم تقدير پاسترناك لرسالته:«هذه الرسالة ليست صحيّة؛ لأنها تتناول مـــا هو غير صحيّ.» يمكن تمامـًا أن تكون هي عين سطور كافكا. في رسالة پاسترناك كانت تظهر، مع الرغبة بالحصول على اتصال حقيقيّ وحميميّ، دوافع خفيّة ومُبهمة للانفصال: في الواقع، لقد انفصل الشاعر للأبد عن والده في السنين التي أعقبت الثورة. بينما رحل كافكا عن الحياة بعد عدة سنوات: «في هذه الرسالة، لقد حققتُ شيئًـا مـــا قريبـًا من الحقيقة، قادرًا على تهدئة كلانا، ويسهّل علينا تقبلَ أمر الحياة والموت.»
في الواقع، يعتبر كافكا وپاسترناك رائدي هذا النوع الأدبيّ الجديد: رسائل الابن إلى الوالد. وبشكل عام يمكن اعتبار أنّ المُمهّد لهذا النوع هو (ليرمونتوف) في مجموعة قصائده القوقازيّة (متسيري/Mtsyri): «أبتاه.. لقد سمعتُ مرات عديدة، أنكَ من أنقذتني من الموت!». إنّ أزمات تعامل الأبناء الروحانيين (المُعمّدين في الكنيسة) مع آبائهم الروحانيين (آباء الكنيسة)، تكمن في عدم وجود قرابة النسب. أمّا في القرن العشرين، فقد اكتسبت هذه الأزمات التواصليّة تتابعـًا غير متوقع في تعامل الأبناء مع آبائهم الذين هم من أصلابهم!
كلتا الرسالتين إلى الوالديْن لم تفصحا عن سبب كتابتهما. السبب الظاهريّ لرسالة كافكا هو سؤال والده عن سبب خوفه؛ أمّا عن رسالة پاسترناك فلا يمكن التنبؤ بسببها تمامـًا. كافكا يكتب رسالة طافحة بالخوف. پاسترناك يكتب رسالة مليئة بالحبّ الذي يصبو للتغلّب على الخوف؛ فيظهر لنا نموذجان رئيسيّان جديدان من (إسحاق) التوراتيّ: الخضوع غير المشروط للوالد، لكنها المساواة أمام الله!
«وَكَلَّمَ إِسْحَاقُ إِبْرَاهِيمَ أَباهُ وَقَالَ: يَا أَبِي!فَقَالَ: هأَنَذَا يَا ابْنِي. فَقَالَ: هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي. فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا.» (سفر التكوين، الإصحاح 22: 7،8)
المصادر:
- http://www.kafka.ru/kritika/read/kafka-i-pasternak
- http://www.f-kafka.ru/category/biografiya/
- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=202205
- http://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showChapter.php?book=1&chapter=22