منذ السّابع عشر من هذا الشهر ومقر الاتحاد العام لطلبة تونس يحتضن مجموعة من المضربين عن الطعام المفروزين أمنيّا، المتّهمين بتعكير صفو نظام الأمس، المهمّشين لأنّهم وقفوا وقفة رعناء ضدّ اللصوصية، الذين واجهوا القمع بصدور عارية. إنّهم هنا الآن وكأنّنا بهم يدفعون فاتورة رفضهم ونضالاتهم التي خاضوها.
يا لجنون دولتنا الرّاهنة، ويا لوطأة العار. هل صاروا طرواديين جدّا حين عجز السياسي على قلب المعادلة ولعبة الشطرنج كي يطيح بنظام فاسد فكانوا هم من حقّق ذلك الانتصار العظيم حين تداعت قلاع ذلك التــيتانيّ الهارب؟ هل صاروا مجرّد أسلحة تستعمل للفتك حتّى إذا ما تحقّقت مآرب مستعمليها رموها في سوق الخردة السياسية؟ هل هم الآن مذنبون حين لم يبق منهم إلّا الجسد الهزيل كي يطالبوا بحقّهم في العيش؟ ألم يكن من شعارات أوّل الجموح الثوريّ مطلب التشغيل والحرية والكرامة الوطنية؟ لماذا تتحوّل اليوم دولتنا إلى عاشقة لرائحة الشواء البشريّ؟ لماذا تهتم أكثر بطائر الكاتيوشا ورقش الرؤوس وإراقة الدماء في حين أنّها تعلم أنّه في صورة ما قضت على البطالة وأرست ثقافة وعقيدة وطنيتين سينتهي الغول الظلاميّ؟
مضربون عن الطعام ولسنا طرواديين، نعلم أنّ البشر اليائسين والمعطلين عن العمل وفاقدي الأمل فرائس سهلة لكلّ المهدويين الدجّالين، ولكن دولتنا أيضا تعلم ذلك. فهل هي الآن تتجاهلنا كي يتعاظم حقدنا ويكبر يأسنا فنصير إرهابيين؟ لماذا تحاول دائما في محافل جنونها هذا صناعة الإرهاب وترويع الجماهير وطمس حقيقة الصراع؟ هل هي بذلك تريدنا حطبا جديدا كي تضيء كروموزم سلطتها؟ يا لمحفل هذا الصخب الهستيري الذي نشاهده اليوم، من تمييع للمعنى و”تشليك” كلّ قضيّة مصيرية، من وجوه مستعارة. شياطين هي تأمر بالمعروف، وجوه في عجينها المدنّس، في لهاثها وتكالبها وتجارتها بالأسماء، يصيبها الرقص على قدم واحدة بينما تلعب الأخرى برأس طفل مذبوح في جبل ما؟
مضربون عن الطعام ولسنا طرواديين، لن نصير أيضا إرهابيين، ولن نقبل أيضا بأن نكون على قارعة الهامش، فمنّا المسرحيّ، ومنّا الأكاديميّ، ومنّا الجامعيّ، ومنّا النقابي، ومنّا ألف اختصاص واختصاص، ولن نقول نحن الأجدر بقيادة البلد، ولكنّا بكبرياء طاعن حدّ التطاوس، نقول بأنّ مسار 17 ديسمبر وما بعده وما قبله أيضا كان شاهدا على ملاحمنا. اسألوا الجامعات، اسألوا ساحات الحرائق والنضال، اسألوا عنّا المخبرين الذين لا جرأة لهم اليوم حتّى للالتفات إلينا. ألم نكن نحن الموقوفين ومحرّري بيانات الغضب والمناشير السرّية ومهدّمي الأنظمة قبل وصول أغلب من نراهم اليوم إلى تلك الكراسي؟
مضربون عن الطعام، ولسنا طرواديين، 17 ديسمبر كان رمزا لدينا. منه في عيد الثورة الخامس انطلق إضرابنا المفتوح عن الطعام، قد نخسر نعم، قد يموت منّا أحد منّا نعم، ولكنّنا مطلقا على قناعة كبرى أنّه من العار والخجل أن تصل دولتنا الراهنة إلى هذا المستوى من السّقوط المدوّي. مضربون عن الطعام، لم يبق منّا إلا الجسد، وقد استوطن جلده الملح، إنّ صفير الأمعاء الخاوية وهي تحرّض الأعضاء على الموت الآن، تحرّضها على الذهاب نهائيا تجاه ذلك المستطيل، لهي الآن أشرف من الصمت.
اضف تعليق