لا أعتقدُ أنَّ “الكتاتيبَ” التي عادت حديثا للظهورِ تحتَ مُسمّى “المدارس الشّرعية لجبهة النّصرة وتنظيم الدولة الإسلامية”، بعدَ إضافةِ مادّة “الجهادِ المقدّسِ” على مناهجهَا، تختلفُ كثيرا عن بقيّة أنواع المدارسِ في كلّ العالم، إلا باللّباسِ الرّسمِيّ، الموادِ المُدَرَّسة، القِرطاسية، نوعِية المُعلمينْ، والتّدريبِ المباشرِ على القتلِ منذُ الصّغرِ، والتي تُترَكُ في بقيّةِ المدارسِ لسنٍّ أكبرَ وبأدواتٍ أكثرَ “اختلافاً وحداثةً ورُقيّاً”. ما يَعني أنّ الاختلافَ يكمنُ بالشّكلياتِ الإداريّةِ فقط. وسببُ هذا الاختلافِ (السّطحي)، كالسّبب في الاختلافِ بين القتلِ بالسّكينِ والقتلِ بالقنبلةِ النّووية أو الصّواريخ العابرة للقارّات.
هو الزّمن/الوَهم، الّذي يُغيّر لبوسَ الأشياءِ فقطْ، في محاولةٍ لإخفاءِ جوهرِها. فمَن يَقتلُ اليومَ بـ”التكنولوجيا الحديثةِ” ويُنكرُ “الذّبحَ بالسّكينْ”، كانَ يَقتلُ قبل قرونٍ بالسِّكين والسّيفِ والرّماحِ، ويقطعُ الرؤوسْ ويتباهى بذلك. هو، القاتلُ ذاته، وقد حدّثَ أداتهُ فقطْ، لتواكبَ بقيةَ الأقنعةِ الحديثة التي يرتَدِيها، ولينكرَ على القاتلِ الأقلِّ “تطورا” من ناحية الأداةِ، فِعلهْ.
من هنا، أعتقدُ أنَّها في العمقِ، جميعُ المدارسِ، تَتشابهُ في الهدف: سَلخُ الأطفالِ عن فِطرتهمْ الحسّيةِ السَّليمة، لتَعبئَتهمْ وتدَجينهمْ تحتَ عباءةِ السّياسةِ والإيديولوجيا والاقتِصاد، ضمن أدوارٍ خاصّةٍ بكلٍّ منهم، في مسارحِ أهمِّ صناعةٍ عسكريّةٍ في التّاريخِ البشريّ: العقل. ثمّ بعد ذلكَ، خَلقُ الاستعداديّة الدّائمةِ لديهمْ، شيئا فشيئا، للدّفاعِ حتّى الموتِ (المعنويّ أو الجسديّ) عن مجموعةٍ من التُّرهاتِ والمُسميّاتِ التي تمَّ تعبئتُها في داخلهم: “بلاد، دستور، عَلم، جنس، عرق، دين، لون، طائفة، عقيدة، شعب، غرب، شرق، إنسانية …إلخ”.
كلُّ ذلك بالطّبعِ، بعدَ رَمي بعضِ الأحلامِ والطموحاتِ والامتيازاتِ التّصنيفيّةِ لهم، تبعا لكلِّ مرحلةٍ عمريّة ومتطلّباتها وخصوصيّتها، إلى أن ينتهوا إلى الاقتناعِ الأعمى بوهمِ “السّلّمِ الاجتماعيّ وتقسيماتِ الشّعوب”. ويباركونَ الأنظمةَ والحروبَ، عن وعيٍ أو دونه، للحفاظِ على هذا الوهمِ الجمعيِّ وحمايته:”درجة أولى” ولها تَدّرجاتُها (طبيب، مهندس، محامي، أستاذ، صيدلاني، وزير، مدير… إلخ)، في حينِ يذهبُ الـ”غير متعلمون” إلى “الدّرجةِ الثانيةِ” من “السّلمِ الاجتماعيّ” البالي: الحِرف والمهن (إسكافيّ، فلّاح، خيّاط، لحام … إلخ إلخ). وينتظرُهُم، لأفرادِ الدّرجتَين، في نهايةِ “السّلم الاجتماعي”: الضّحايا الأقسَى لـ”حركةِ التّاريخ”: المجرمون (مدنيون / عسكريون).
وعندَ وقوعِ الحربِ: “التَّعريةُ الأصدقُ لكلّ هذهِ المنظُوماتِ والأديانِ والإيدولوجياتِ والسّلالم والتّصانيفِ الّتي تَفترضُ الرُّقيّ”، عند وقوعِ الحرب، يُصبحُ جميعُ أفرادِ “الطّبقتين” الأولَى والثّانية، تحتَ إمرةِ وخدمةِ أولئكِ الجالسينِ في أسفلِ “السُّلّمْ”: ضَحايا التّصنيفْ، ليتذَوّقوا ويحصِدوا ما سَاهموا بزراعتهِ، بعدَ أن تبدأ السّببيّةُ حَصادها. وتستمرُّ الحربُ، ويُحاكمُ طرفاها على المَفاهيم ورُقيّها”، و”نوعِ” أداةِ القتلِ المستخدمةِ في الدفاعِ عنها، وليسَ على القتلِ كفعل. فيصبحُ قتلُ الآلاف وأحياناً عشراتُ الآلاف، بكبسة زرٍّ (اخترعهُ علماءُ ومهندسونَ)، أرقَى من الذّبح بالسّكينِ الذي يرتَكبهُ “الهمجيُّ المتخلّف”. وتستمرُّ الحرب.
رغمَ بشاعةِ وهولِ رؤيةِ عينيّ ضحيّة تُذبحُ بالسّكينِ، وسماعِ لهاثِ أنفاسِها، لكنْ ، هل تخيّلَ أحدٌ منّا ولو لمرّةٍ، عيونَ وأنفاسَ آلافٍ يُقتلونَ بقنبلةٍ أو صاروخٍ واحد. ضحيّةً ضحيّة، نفَسا نفَسا، احتراقا احتراقا … لا أعتقدُ، إلّا قلّة قليلة. فذاكَ يحتاجُ خيالا لن تُبقي المدارسُ (أيُّ مدارس) على شيءٍ منه. بهذا المعنى، أعتقدُ بأنّ جميعَ المَدارسِ تَسقطُ على اختِلافَها، أو تُقبلُ على اختِلافِها، بعيدا عن الشّكليّاتِ وتجلّياتِها.
[…] http://www.qrtas.com/2015/12/09 […]