عندما أخبروا سناء الدّالي أنّ محمد العصفوري قد مات، ضحكت ضحكةً طويلة، وقالت وهي تشرق بالضّحك:”محمد العصفوري لا يموت، ولا يمكن أن يكون ما تقولونه صحيحا، ولو كان ينوي الموت لكان أخبرني كي أجهّز نفسي لخبر من هذا النّوع.” قالت ذلك وسقطت مغشيا عليها، لأن محمد العصفوري كان قد مات بالفعل، برصاصة جندي إسرائيلي، كل ما كان يميزه أنه يملك بندقية إم 16، أنهى بها نقاشا حادا على أوّل درجة في باب العامود في القدس. محمّد كان يملك المنطق والجندي كان يملك مخزنا معبأ بالرّصاص.
في الحقيقة أنّ العلاقة السرية التي نشأت قبل أعوام بين محمد وسناء لم تكن علاقة عادية. فقد كرهته إلى حد لا يمكن تصوّره، عندما رأته أول مرة. كان يرتدي مجموعة من الإكسسوارات، علم فلسطين حول معصمه، خارطة فلسطين في عنقه، حنظلة موشوم على ذراعه. قالت له يومها إنّه شخص يهتمّ بالمظاهر أكثر مما يهتم بالجوهر.
كانت الورشة التي جمعتهما في أوروبا تضطرها لأن تراه كل يوم. وحلقة نقاش بعد أخرى، اكتشفت أنه يعرف عن فلسطين أكثر من الكتب الخمسين التي قرأتها وكانت تعتز بقراءتها. فبدأت ببطء تغيّر وجهة نظرها إلى أن انتهى الأمر إلى أن تقع في حبه بعد أن أنقذها من متفلسف فرنسي كان في ذات الورشة حين دار نقاش حول هيكل سليمان، ووصل النقاش إلى مرحلة لم تعد فيها قادرة على الرد على الفرنسي الصهيوني. فتدخّل محمد وشرح فكرة إسرائيل فنكلشتاين الذي يدعوه العالم “أبو الآثار”، حين قال إنّ طبقات اكتشفت تعود إلى ما قبل الهيكل وطبقات تعود إلى ما بعد الهيكل. ولو كان الهيكل موجودا لكان بين الطبقتين، وهذا يدل على أن الهيكل ليس موجودا، ولا يمكن أن يكون موجودا. يومها أصاب الخرس ذلك الفرنسي، فيما لمعت في عينيها نجمتا حب تطوّر سريعا إلى عشق تحوّل إلى وله.
حدّثها عن المادية وعن الشيوعيّة وعن ابن رشد وعن المأمون الذي أدخل الترجمة إلى العربيّة، حدّثها عن أبي ذر الغفاري، عن محمود درويش وعن توفيق فياض، عن روحي خماش.. “يا إلهي، هذا الرجل يعرف كل شيء!”.
عادا إلى فلسطين. كان يسكن نابلس وكانت تسكن غزّة، وتلك كانت مشكلة أخرى، توصلّا إلى حلّها مؤقّتا عبر الإنترنت، لكن هذا لم يكن كافيا بعد أن أصبحت تراه في كلّ شجرة وفي كل عصفور وفي كل حجر في المدينة. وكان هو يراها في مدينته القديمة ويكتب لها: “رائحتك تشبه نابلس القديمة”. وتكتب له: “عيناك لهما وقع بحر غزة حين أزوره في الصباح”.
قالت له في إحدى الحوارات: “عِدني ألا تموت”. فقال: “كيف أموت وأنا في حضن امرأة مثلك؟”. ضحكت، لكنّه لم يرَ تلك الضحكة، فقد كان يحدثها كتابة ولم يطلب منها يوما أن يراها. هي كانت في روحه صورةً لا يمكن أن تغيّرها الأوقات، وهو كان في قلبها لهبا لا تطفئه العاصفة.
يوم قالوا لها إنّه مات، استعادت كل ذكرياتها معه في لحظة لا يمكن وصفها. لذلك سقطت فاقدةً وعيها، فالوعي هو ما يجعلنا نحزن. ونحن نفقد الوعي حين يكون الحزن أكبر من قدرتنا على الاحتمال.
بعد محاولات كثيرة، لا يمكن إحصاؤها، حصلت سناء على تصريح لتزور رام الله. اتفقا على أن يلتقيا في القدس أوّلا، لأنه يتوق إلى بائعي الكعك وروائح العطارين فيها. اجتاز المسافة المربكة بين نابلس والقدس عبر الجبال والطّرق التي لم يفطن إليها أحد، ولم يكن يعرف لماذا يفعل ذلك رغم امتلاكه لتصريح يسمح له بدخول القدس، لكنّها العادة على ما يبدو.
أوقفه الجندي ذو البشرة السمراء لمجرّد الاشتباه أو للتسلية، خمس دقائق تبقى على موعد وصولها. طلب منه الجندي أوراقه فأعاطاه إيّاها. فقال الجندي بغروره العسكري وعربيته غير العربية: “عليك أن تشكر الدولة التي تدعون أنها دولة فاشية، أنها تعطيك تصريحا لتزور “يروشالايم”.” ليبدأ نقاش بينهما، هو ينتصر والجندي يحتدّ، إلى أن وصل الجندي إلى مرحلة الخرس، فضغط على الزناد، ربما دون قصد، ربما هزيمته التاريخية فعلت ذلك، لكن النتيجة واحدة، أن محمد العصفوري تلقى رصاصة في قلبه تماما، قلبه الذي كان ينبض باسم سناء التي لم تصل بسبب حاجز ما.
عندما وصلت ولم تجده في انتظارها، أخبروها أن شابا يدعى محمد العصفوري قد مات هنا. البعض قال استشهد، والبعض قال قُتل. اختلفوا على اللّفظة، لكنّ كلّ ذلك كان يعني بالنسبة لها شيئا واحدا، “أنّها لن ترى محمدا”، لذلك سقطت فاقدةً وعيها، وفاقدةً أملها في أن تكون للرجل الوحيد الذي أحبته بما تملك من قدرة الحياة.
حين أتت سيارة الإسعاف لتنقلها إلى المستشفى، كانت يدها تقبض بقوة على سلسلة من الفضة، كانت قد أحضرتها له من غزة، سلسلة تحمل اسمها واسمه. ستفيق سناء بعد ساعات من غيبوبتها، وترى صورته على التلفزيون والخبر يمر من تحتها: “استشهاد شابّ في محاولة طعن جندي إسرائيلي في باب العامود.”
اضف تعليق