أول أيّامي مع الطّبيب كانت أصعب الأيام -وهذا بعد رحلة مع طبيب آخر لا يهتم بالعلاج السّلوكي ويكتفى بالأدوية-. كنت تائها ضائعا لا يستطيع شحذ قواه للحديث. يتكلّم ويفكّر ويتراجع وتشتعل رأسه بالآلاف من الأفكار. ما أدركته بعد تجاوز اللّقاء الأوّل والثّاني والثّالث أنّ هذا هو الطبيعي، وأنّ الطّبيب النّابه يستطيع إدارة الأمور. وقد رزقني الله به ولله الحمد. كسر حواجز الصّمت رحلة مليئة بالمخاطر والصّعوبات مثل تسلّق الجبال، مغامرة ماتعة وخطِرة.
من أهمّ المشاكل والمعتقدات العجيبة التي كنت أسمعها تُردّد حولي، أنّ الاكئتاب انعكاس للتّقصير في العلاقة مع الله. وبعد تساؤلات عديدة، تعجّبت كيف نتعامل مع الله بهذه الطريقة سيئة الأدب؟! الله أرحم من أن يعاقبك بمنطق حسابي قميئ. ربّما نحن البشر نستخدم هذة المعادلة: تقصير = عقاب، لكنّ الله عزّ وجلّ أرحم بعباده. ولا يتعامل معنا نحن البشر الضعفاء بمعادلات رياضية جامدة، وإلّا فسيكون مصير الجميع في العذاب المقيم. العلاقة الرّوحية مع الله رافعة من روافع الرّوح، وعندما تكون أحد مكوّنات حياتك الرّئيسيّة وتدخل في دائرة الإكئتاب، تفتقِد هذه الروافع وتدخل دائرة الإحساس بالذّنب. ثمّ تحاول أن تعود، ثمّ لا تجد من الطاقة ما يكفي للاستمرار -وهذا من أعراض المرض- فيتعاظم الإحساس بالذّنب. وهكذا دواليك.. دائرة مفرغة من الألم وجلد الذات، قد تصل إلى فقدان الثقة في الله!
اقرأ اليومية الأولى اليوميّة الثانية
ومع تشابك الأعراض وتعاظم جلد ذات، قد تصل إلى مراحل خطيرة من التّفكير أو الإقدام على الانتحار. وهذا ما وصلت إليه. فقدت الأمل، تشوشّت أفكاري، تشكّكت، أصبحت معلّقا في الهواء.. أقدمت علي الانتحار. بل وحاولت، وفي اللّحظة الأخيرة ومع جرّة الآلة الحادة على الشّريان، أنزل الله على قلبي مسحة من رحمته. فتذكّرت أنني أضعف من أقدم علي هذا الفعل الشنيع، وأنّ لي ربا رحمته سبقت غضبه، ولو طاوعت نفسي سأغضبه! وأنا لا أتحمل غضب الرحمن. ألقيت “الموسى” وبكيت بشدّة. كادت تجفّ مدامعي وجفّ حلقي وسقطت في بئر النوم.
الله رحيم.. الله عند المنكسرة قلوبهم. ليس الله مديرا سيعاقبك على تقصير في مهامّك. الله ربك وأنت صنيعته. والابتلاء بمرض الاكئتاب ليس إلا ابتلاء في الدنيا ورحمة في الاخرة. رحلتي مع الاكئتاب زادت ثقتي في رحمة الله، على عكس ما يظنّ البعض. لقد أدركت أنني ضئيل أمام رحمة العظيم. واطمئننت أنّ لي ربّا لن يعاقبني على ضعفي، بل سمرض حتى أصبح صديقه، أحببت ابتلائي لأنّه جعلني أدرك معنى العبودية التي تحررك من كل وهم بشري ومعادلات قميئة وتجعلك عبدا فقط في كنف الكريم.
اضف تعليق