تأبيد السّلطان والتأليه:
لقد وصف الأمويّون سلطتهم المطلقة “الملك العضوض” بأنّها قضاء الله وقدره وإرادته وما على المسلمين إلّا الخضوع والتّسليم لأنّ التّسليم لسلطتهم العضوض هي تسليم وخضوع لإرادة الله وقدره وهي جزء من تمام إسلامهم . وكان لهم ذلك وتولّى الفقهاء بناء الصّرح الفقهيّ والثّقافي لذلك، بحيث أصبحت السّلطة المطلقة وطاعة وليّ الأمر بشكل مطلق جزءا من الدّين نفسه (تديين الاستبداد). أمّا العباسيون فزادوا على ذلك -وزادوا الطين بلّة- بأن جعلوا الخليفة نائب الله على الأرض ووكيله، وطاعته أيضا طاعة لله تعالى نفسه. وقام الفقهاء بتحريم أيّ خروج على الخليفة (نائب الله).
كان مصير الخارجين القتل والتنكيل وقبل ذلك التكفير كمقدّمة لتشريع الذبح والقتل. وبالفعل فقد بلغ العباسيون حد التأليه لخلفائهم بدعم وإسناد فقهي من علماء أو فقهاء السلطان. وقد استمر الأمر على هذا المنوال حتى سقوط الخلافة العثمانية في أوائل القرن العشرين. ومن الغريب أنه حتّى حركات المعارضة التي كانت في غالبها شيعية المذهب قد تقمّصت نفس المنظومة الاستبدادية. ولكن من زاوية أخرى، تحت ذرائع دينية وفقهية أخرى -الإسلام طبعا بريء منها في الحالتين-.
في المنظومة السّلفية السّنية الأموية والعباسية كان الخليفة صاحب سلطة مطلقه ونائبا لله في الأرض ومسدَّدا من الله. وكذلك كان الأمر في المنظومة السلفية الشيعية حيث بلغ الإمام لديهم درجة المعصومية ومعرفة الغيب وطاعته من طاعة الله. وهنا ذروة المأساة في تاريخنا حيث السلطة (الموالاة) والمعارضة ينهلون من نفس المنظومة الاستبدادية “البطركية – القروسطية” بالتّعبير الغربي. ولذلك لفّ الاستبداد الأسود حياة مجتمعاتنا سلطة ومعارضة واخترقها عموديا وأفقيا، سياسيا، وثقافيّا واجتماعيا.
اقرأ الجزء الأوّل من السّلسلة الجزء الثّاني الجزء الثّالث
هذه المنظومة السياسية لجناحي الصراع (السلطة السنية والمعارضة الشيعية) استدعت موضوعيّا منظومتها الثقافية (الفقهية) من جهة وبنيتها الاجتماعية (البطر كية) من جهة ثانية. أكتفي الآن بإيراد بعض الأمثلة “يجب على المسلم طاعة الإمام حتى لو كان فاجرا أو فاسقا”، “الإمامة بالغلبة–بالقوة”، “سلطان غشوم ولا فتنة تدوم” (4)، “إنّ حدوث الفسق من الإمام بعد عقد البيعة له لا يوجب خلعه”، “من قتل السّلطان فهو سلطان” (5). كما تمّ وضع العشرات من الأحاديث المنسوبه للرسول التي تبرّر وتشرعن الخضوع للسلطان سواء كان عادلا أم ظالما، بارّا أو فاجرا.
لقد اخترقت هذه المنظومة السّياسية والثقافية المجتمعات العربية والإسلامية شاقوليّا وأفقيّا وعبر مئات السّنين باعتبارها من قيم الدين ذاته. وهنا مكمن الخطورة، إذ أصبح الاستبداد دينا للعرب والمسلمين. ممّا يعني أنّ التخلّص من الاستبداد يحتاج إلى تجديد الدّين ذاته أو ثورة في الموروث الديني. لقد أصبح الاستبداد على هذا الوجه جزءا من نسيج حياتنا وسلوكنا بل ممزوجا بهويّتنا العفوية اليومية بدءا من الخليفة/السلطان/الحاكم/الرئيس حاليا إلى شرطي المرور ومأمور المخفر، ومن شيخ القبيلة نزولا حتّى سلطة الأب وسلطة الابن الأكبر على إخوته، ومن شيخ أو إمام الطائفة الدينية حتى أصغر أتباعه، ومن زعيم الحزب السياسي حتى أصغر نصير في أدنى خلية حزبية. وعلى هذا الوجه أصبح الاستبداد ثقافة مجتمع متكاملة وليست ثقافة سلطة سياسية. أصبح مرضا. كلّ فرد في المجتمع إما مستبدّ بغيره أو مستبدّا به حسب موقعه من هرم الاستبداد الاجتماعي (رئيس، مرؤوس، مدير، موظف، أب، ابن ، شيخ، مريد، رجل، امرأة.. إلخ).
لقد سقطت الكثير من أنظمة الاستبداد في تاريخنا ولكن لم يسقط الاستبداد ذاته كثقافة ونظام حياة. بل ابتلينا بأنظمة أشد هولا وقساوة في القمع والتنكيل مما قبلها “يروح قيصر ويأتي قيصر”. لم يكن العباسيون بأفضل من الأمويين ولم يكن الفاطميون بأفضل من العباسيين وهكذا دواليك حتى بدايات القرن العشرين عندما دكّت مدافع الحداثة الأوربية حصون وقلاع الاستبداد والتّخلّف العربي. لقد تناوبت دورات الاستبداد على حياة مجتمعاتنا في صيرورة متصاعدة حتى حوّلتها إلى مجرد رعاع.
الخلاصة:
الإنسان هو قائد التّطوّر وهو هدف هذا التطور في الوقت نفسه، من أجل أن يعيش حياة تتّفق وإنسانيّته في الحريّة والكرامة والمساواة، وهو ما جاء من أجله الإسلام. ولن يتمكّن هذا الإنسان من قيادة التّطور الاجتماعي إلّا بشرطين: الحريّة أوّلا وإطلاق طاقة العقل للإبداع ثانيا. إنّ الرّسالة الإسلاميّة وفّرت للإنسان العربي هذين الشرطين، كما رأينا. وحقّق بهما انطلاقته الرّائعة إلّا أنّه تعرّض للارتكاس مرّة أخرى نحو القبلية والاستبداد، تمّ فيها السّطو على كل المكاسب التي حقّقها الفتح الإسلامي، والانقلاب على مبادىء الإسلام وجوهره لصالح تشييد امبراطورية تقوم على الاستبداد الديني أي باسم الدّين.
هذا الانقلاب تمّ عبر صيرورة طويلة من قهر الناس ونشر ثقافة الجبر وإلغاء مبدأ حرّيّة الإنسان وأسّس للنّقل على حساب العقل وقام بتجويف أو تفريغ الاسلام من جوهره الإنسانيّ الحرّ لصالح منظومة شعائرية كهنوتية حاكها رجال وفقهاء السّلطان. وأفقر النّاس وتمركزت الثّروات وتقدّس السّلطان حتى أصبح كالإله، وكلّ من يعارض أو يقول لا أصبح كافرا أو زنديقا ونصيبه الهلاك أو الخراب أو الصعلكة في القلاع البعيدة أو الجبال. فتكرّست القبلية مرّة أخرى وأضيفت إليها العصبيّة الطّائفيّة نتيجة التّكفير والتّصفية والإقصاء، فزادت الأمّة انقساما على انقسام واستنزفتها الحروب الأهليّة والطّائفية والقبلية بدلا من التّفاعل والاندماج. وتجمّد العقل وقُتل الإبداع خوفا من الاتهام بالبدعة والضّلال. وأصبح الفكر نقلا وشرحا على شروح. ودخلنا في دوّامة الجمود والتكرار وانغمسنا في ظلمة ليل طويل من الانحطاط.
الاستبداد يعطّل التّطور ويجمّده لأنّه يلغي الحرية وينفي العقل ويشوّه الإنسان والمجتمعات. ويجعلها عاجزة عن بناء الحياة ويودي بها إلى الانحطاط والانحدار. ونحن الآن ورثة هذا الذي كان، وندفع ثمنه غاليا من حياتنا وأرواحنا ودمنا وأطفالنا وكرامتنا في كلّ آن.
المراجع:
( 1) عبد الجواد ياسين – السلطة في الاسلام – طبعة ثانية – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – ص 258
(2) المرجع نفسه
(3) المرجع نفسه
(4) ابو يعلى الفرا – الاحكام السلطانية- دار الكتب العلمية – بيروت – 1983- ص 20
(5) الباقلاني – ابو بكر محمد ابن الطيب-التمهيد – المكتبه الشرقية -1957-ص 168
اضف تعليق