فقط لو كنت حيّا
ستبلغ اليوم سبعا وستين عاما
فقط لو كنت حيّا
ستجد أنّك تنتظر الموت
فقط لو كنت حيّا
ستملّ من انتظاري
فقط لو كنت حيّا
هكذا ترنّمت الكاتبة و المناضلة الفلسطينية ريما نزّال في الرابع عشر من الشّهر المنقضي في ذكرى ميلاد زوجها الشهيد خالد نزال “أسد فلسطين”، كما يلقّب.
وُلد خالد نزّال في بلدة قباطية قرب جنين عام 1948. تولّى سكرتارية اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكان قائد جناحها العسكري ومجموعاتها الفدائية في الداخل. أهدى أسد فلسطين الجبهة الديمقراطية والثورة الفلسطينية نجاحات عديدة من موقعه كمسؤول عن إدارة العمليات العسكرية والتخطيط لها من خلال مراكز تابعة للجبهة في روما. وهو الأمر الذي جعله في قلب الخطر وعلى مرمى حجر دائم من أعين الموساد الإسرائيلي. وفي التّاسع من جوان سنة 1986 استشهد خالد نزال في عملية اغتيال جبانة نفذها الموساد الاسرائيلي بالعاصمة اليونانية أثينا، حيث قام مسلّحون بإطلاق النار عليه. أربع رصاصات اخترقت جبينه وأودت بحياته ليرتقي شهيدا ويسجّل مجدا للجبهة الديمقراطية والوطن والشعب الفلسطيني.
تعرّفتُ على “ريما نزال” سنة 2013 في المنتدى الاجتماعي العالمي الذي أقيم بتونس. كنت آنذاك أقوم بتغطية الحدث و اتخذت كغالبية الحضور الخيمة الفلسطينية عنوانا لي. كان الوطن هناك بدبكة الفرح وكوفية الغناء. امرأة تحمل في روحها ماهية الوطن وفي قَلَمها نبض الأمل وفي قلبها ذكرى البطل. هي كاتبة وسياسية وناشطة نسوية فلسطينية مقيمة في رام الله وعضوة في المجلس الوطني الفلسطيني والأمانة العامة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية. كانت ريما نزال من جملة المناضلات اللاتي وقع عليهن اختياري لأشاركهن اجتماعاتهن و نقاشاتهن. لا أزال أذكر من بينهن المناضلة ابتسام زيدان النّاشطة في مجال حقوق الإنسان والمرأة ومنى نمورة عضوة اتحاد المرأة الفلسطينية وزوجة سفير فلسطين الحالي بالبوسنة والهرسك.
كجلّ العرب، متيّمة أنا بقصص العشق الحزينة. ومشتاقة أبدا لحكايات الشهادةالمنيفة. شدّني العشق الغريب الخالد الساكن في كلمات ريما نزال لزوجها الشهيد من يوم لآخر، من عام لآخر. وها أنّه قد مضت ثلاث سنوات ولا تزال صورة الشهيد يحتضن حبيبة القلب تستوطنني وتغري حروفي. هذه السنة، لم تمض أيّام قليلة على ذكراه الخالدة حتى كان لي هذا الحوار مع ريما نزال التي بلغت من الصدق منتهاه حتى أنّها أخبرتني أنها لم تدقّق إجاباتها خوفا من مقص الرقابة الذاتي.
- متى وكيف التقيت الشهيد؟
التقيت الشهيد خالد في عمان في بداية عام 1970، وذلك بعد أن قام الاحتلال الاسرائيلي بإبعادي عن بلدي في 12-10-1969، على إثر اعتقال قصير بسبب نشاطي المقاوم وخضوعي للإقامة الجبرية في البيت لمدة تقارب الشهرين. على إثر إبعادي إلى عمّان، انتسبت للجامعة الاردنية وبدأت في ممارسة النشاط السياسي مع الطلبة الفلسطينيين في صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. اللّقاء كان صدفة في أحد المقاهي في عمان حيث كنت أجلس مع بعض الرفاق والرفيقات من طلبة الجامعة، عندما جاء خالد لأمر ما ناقشه على عجل على مقربة منا مع أحد الرّفاق. لدى عودة الرفيق قال لنا أنّه الرفيق خالد نزال مسؤول المعسكر، ثمّ استدار نحوي وسأل من تكونين. كنت ألاحظ أثناء حديثهما أنّه يسترق النظر نحوي. هذا اللّقاء ترك انطباعا ما في نفسي، ربّما زيه العسكري.. شكله الجيفاري.. أو حضور شخصيته الطاغي عن بعد.
مرّت أشهر قبل أن أراه مرّة ثانية صدفة في جامعة دمشق، بعد انتقالي إلى دمشق مع ارتحال الوجود العلني للمقاومة الفلسطينية عن الأردن على إثر الأزمة السياسية مع المنظمّة في أيلول عام 1970. كان قد قدم للجامعة ليلتقي مع بعض الطلبة في مقهى الجامعة عند دخولي مع صديقاتي. لم أكن ألحظ وجوده إلّا حين تقدّم لدفع ثمن فنجان القهوة الذي طلبت قائلا: “هل تتناولين طعام الغداء معي في الجامعة؟” تردّدت للحظات بسبب جرأته غير المتوقعة، ومن ثمّ قلت: “ما دام الأمر في الجامعة، فلا بأس. قبلت دعوتك ولكن غدا.”
- قبل أن يسافر و تغتاله رصاصات الغدر، هل شعرتِ بقرب الفراق.. بشيء ما؟
قبل استشهاده ببضعة ساعات اتصل بي وكان حزينا ومحبطا. وطلب الحديث مع الصغير غيث، الذي لم يكن يجيد الكلام بعد. فما كان من الصغير -حتّى يبلغ والده بأنّه قد حصل على لعبة مسدس، كهدية من أحد الاقارب في يوم العيد- إلا أن يضغط على زناد المسدس في سماعة الهاتف. يطلب مني خالد إيضاحا عن ما يفعل ابنه وأنا أقول له بأنّه يشعرك بأنّ لديه مسدسا صغيرا بلاستيكيا. كرّر طلب الحديث مع الصغير ثلاث مرات وغيث يكرر الضغط على زناد اللعبة. طبعا تشاءم خالد من الموضوع، وعبّر عن تشاؤمه في نفس اللحظة. وكذلك انعكس الأمر على نفسيتي لكنّي كتمت شعوري. بشكل ما، كنت أشعر بأنّ وجودي مع خالد مؤقت. كانت تأتيني أحلام أرى نفسي فيها وحيدة وخالد بعيدا وشفافا كالخيال. وهو كان يشعر كذلك بذات الشّعور. وأحيانا يعبّر عن ذلك أكثر منّي، ربّما لأنّه يعرف أنّ الاحتلال يتابعه، نظرا لطبيعة عمله. لكنّه لم يكن يضعني في الصورة بخصوص المعلومات التي يمتلكها.
- في فيديو جنازة الشّهيد، كنت واقفة بصمود عجيب. كيف تمكّنت من الوقوف و البقاء شامخة؟ لازلت تذكرين تلك اللحظة؟
الجنازة.. لا شكّ أنّي كنت أتظاهر بالتّماسك، وكان عليّ أن أفعل ذلك. نحن في فلسطين، لدينا ثقافة جمعية تتلخص بالصمود. فلا نوفّر للعدوّ فرصة أن يشمت بنا ويتمكّن من كيّ وعينا فنقلع عن المقاومة والتضحية. كما أننا نعتز بشهدائنا وبطولاتهم، انطلاقا من الاعتزاز باستمرار المقاومة. وعلامة ذلك الشهادة والاعتقال. نحن نزغرد في الجنازات كعنوان لاستمرار مقاومتنا وتحدّينا وصمودنا ورفض الاستسلام. إنّها الرّسائل التي نرسلها مع كلّ شهيد. إضافة إلى ما سبق، نحن نشعر بالمسؤولية تجاه أسر الشّهداء اللاحقين. وفي كوني زوجة خالد نزال خصوصية تتعلّق بكوني من قيادات الحركة الوطنية والنسوية. تصبح مسؤوليتي مضاعفة بأنّ عليّ أن أُظهر التماسك والصمود أكثر من غيري، لذلك كنت أقمع نفسي ومشاعري رغم أنّي كنت أدري بأّني لست بحجم الضغط الذي أعرّض نفسي له.
كنت أعيش حالة من التّناقض بين المظهر الذي عليّ أن أبدو عليه وبين مشاعري الحقيقية بالفقد. كنت أتصرّف وكأني مخدَّرة. كنت أعاكس طبيعتي وسماتي الشخصية. الشموخ، طبعا، لا يُلغَى بالحزن وإظهار التماسك، فأنا أعتز بخالد كمناضل حقيقي عرف ما يريد واستحقاقات وتبعات إيمانه بالمقاومة. ومارس قناعاته وكرّس كلّ وقته للمساهمة في بناء حركة مقاومة في المناطق المحتلة ودفع ثمن قناعاته وخياراته. وبالنّسبة لي اخترته عن قناعة تامة وإيمان به وبتوجّهاته.
الجزء الأوّل من جنازة الشهيد أسد فلسطين خالد نزال وفي الدقيقة 5.22 تظهر ريما نزال صامدة.
https://www.youtube.com/watch?v=0GQBNo_EwDktd]d
الجزء الثاني من مراسم جنازة الشهيد خالد نزال.
https://www.youtube.com/watch?v=hvWe-p3zjB0
- ختاما، ماذا تقولين للشهيد سلاما لروحه؟
أنا أحدّثه باستمرار في مقال سنوي بدأ في 9-6-1986. ولا يزال الحوار من طرف واحد مستمرا وسيتواصل ما حييت. وسأنتظر الالتقاء به لأسمع إجاباته.
“على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة” و هذا ينعكس في الرّوح الحيّة المتمردة التي تسِم كل الفلسطينيين. وما التزام الكاتبة تجاه الأرض وقضايا الوطن و الحب الخالد في القلب والمنتصر للذاكرة إلاّ خير مثال على ذلك.
اضف تعليق