ما هذه الحياةُ الَّتي تُعانِقنا يوماً كالحَبِيب ويَوما تَصْفَعُنا كَالعَدُوِّ؟
أهذه هي الحياة التي كنت أركل بطن أمي لأجلها؟! – جبران خليل جبران-
كنت جالسة في جنازة العمة حبيبة وكانت تلك من بين اللحظات النادرة التي قلّما أحسست فيها بضراعة الموت. كنا نرثيها بحرقة ونبكي حظها العاثر. أيّام قليلة مضت على زواج اِبنتها الصغرى. كانت شمعةً تحترق وهي تودّع فلذة الكبد، بهجة التلاقي بطعم الفراق قبل الفراق. أحسست بلذعة الحزن وتمنيت لو كانت لي يد سحرية أو رؤية خارقة فأتنبأ بمولد جديد لها. جلست أفكر في سنوات الجمر التي فتكت بشباب الحبيبة حبيبة وأتأمل في هذا القدر البغيض. سنين من الهجر والانتظار، من غربة الروح في ‘البْلادْ’ ثمّ بضع أخرى في باريس الأنوار وغربة الجسد وعتمة الروح.
تطلّعت إلى ما كتب على ظهر الكرسي المقابل لي و تثبّت في باقي الكراسي و قد كتب عليها: “كراء للأعراس”. تنامت في نفسي نقمة على البشر، وبحثت عن الله في دموع الحشود. تعاظم إحساسي بالصقيع. تجمّدت مكاني كالحجر. أحرقني الدمع المنسكب الآن من عيني وأجبرني على الرحيل. بعد أن غٌسِّلت العمة، ابتغيت أن أنفرد بلحظات أضمها طويلا وأشبع عيني من وجهها. أودّع الحبيبة وأختزن ملامحها لأداوي بها الآتي من فقد وحنين. لكنهم أبوا إلا أن يٌودوا بما تبقى من وميض الضوء. تمنيت أن تصيبهم لعنة السماء فيعقلون. بخلوا عليها بالحياة وهي بينهم والآن هاهم يبخلون عليّ بفرصة توديعها كما يجب. ها أننا نثبت حقا أننا قطيع لا نوفي أحبائنا قدرهم إلا ساعة الاحتضار. هؤلاء ينثرون الموت حتى الرّمق الأخير. لم يحرموني أنا فحسب، بل أن سياسة النكران والمكيالين في الحياة والموت هذه شملت حتى بنات المرحومة.
يقول أحمد مطر:”لسنا من الأحياء في أوطاننا ولا من الأموات ** نهرب من هروبنا مخافة اعتقالنا بتهمة الحياة“. كذا العمة حبيبة مثل غالبية الأسر في الجنوب التونسي، سافرت الحبيبة عسى يلتئم شمل الأحبة. عسى العمر يعوّض ما فات من عمر. عسى و عسى.. وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرّ لكم. فرقتنا المسافات هادمة اللذات وحَرَمتنا اللقاء إلا من دقائق معدودات ما أقصر شذاها. فرقّنا الرحيل وجغرافيا السفر لسنين لنحتفل في وقت مقتضب باللقاء الاخير. عادت العمة من “الخارِجْ” وهي على أهبة الارتحال و في البدن سرطان رجيم، وفي القلب مرار شديد.
فشلت حقن المورفين في الحد من نزاع الساعات الأخيرة مع الموت. يصرخ الجسد العليل فترعد السماء و تتلبد الغيوم لتبكيها. اللعنة على هذا المرض! نخر في الجسم واِقتات من اللحم، ليجتث الحلم بالاستمرار! نظرات العمة تفضح ما أخفيه. هي حتما تدرك أننا نٌلِم بسقمها الآخر. السرطان الحقيقي الذي حكم عليها بالاندثار. ربما كان السرطان في رحمها رحيما فيرأف بعظامها بين التارة والأخرى. لكن السرطان الذي أودى بروحها و لم يرحمها، كان علمها بأن زوجها على علاقة بأخرى، امرأة أخرى، امرأة بقلب حيّ، برحم سليم بجسد أنثوي كامل. وأنّه يعد العدة لفرحة العمر. إبان مغادرتها.
أ لا ليت شعري هل أدخلن في نفوس البشر فأدركنّ كنه بصيرتهم، وأفقه الدّاء الذي اِعترى السواد الأعظم من آبائنا حتى لا يكادون يوارون شريكة الفرح والشقاء تحت الثرى حتى يحتفوا بالحياة؟ وهي تغالب الوجع الذي فتك باللحم والشحم، بالصدر والخصر والعظم، وحكم على الرحم بالهمود. ها أن الزوج يطالعني بمظهره الأنيق ليوحي بالجمال والحياة. تحضرني أغنية كثيرا ماتتبادر إلى ذهني في مواقف كهذه “قالوا احلوّيتِ خالصْ و بقيتِ أحلى من الأوّلْ.. أجملْ من الأوّلْ.. لازمْ حَبِّيتِ.”
“ع السلامة وآش أحوالكم ولاباس؟ ووينكم؟ وضحكة وبسمة وحياة.. ولاباسْ!”. في المقابل، يسودّ جلد العمة و يصفر. وتذبل زهرة البيلسان وتهتف بالهلاك تشهق بسكتة الموت وسكرة الأجل. وترحمها السماء. زغردي يا زوجة المرحوم. عفوا مرحومة الزوج! تمضي الأيام الثلاثون. يستعد سعيد الحظ لفرحة العمر. اليوم تخطب له اِبنته -العروس الصغيرة- عروسا صغيرة. وقريبا يودع هُو سنوات الجفاف الجنسي والقحط المهبلي. لَكَأنّ الحياة تختصر في رحم سليم. جسم معافى وآه نشوة آنية فانية تقتات من آه الرحيل السرمدي.
تُخْتَصرُ العمّة في سنواتٍ جدباءَ. وتُنسى. ويَنسى العم جَمِيلْ ذكريات الماضي الخصيبة وأنّه على قول المتنبي “لو أنّ الحياةَ تَبْقَى لحيٍّ لعدَدنا أضلّنا الشُّجعانا .. وإِذا لم يكنْ من الموتِ بدٌّ فمن العجزِ أن تموتَ جبانا“. استحضرتُ سنوات الصبا حينما كان العم جميل غائبا في ‘الخارج’ و كان اللقاء يجمعه بالحبيبة من صيف إلى آخر. ألم تكن هي كذلك تعيش الحرمان؟ لا حنّاء.. لا تجميل.. لا حياة.. لا قُبل.. لا جماع؟؟
تُنسى.. نعم.. تُنسى كأنّك لم تكن. -درويش-
نحن مجتمع معظمنا يجهل أسرار الجسد ويختصر لذّته في معناها الزائل. ليست كلماتي هذه تأملات ‘نسوية ‘ولكنّي بتمعن بسيط أرى أنّ ما نسميه “لِيبِدُو جنسي” يشابه في بنيانه البناء السردي فهو يتصاعد بفعل فاعل ويصل لذروته ثم سرعان ما ينطفئ ليسود هدوء الوعي وسكون الغريزة. لو أنّ جموع الناس يفقهون أنّ تلك لحظات قليلة لا تختصر الوجود الكامل للإنسان الذي هو مزيج معتق من غرائز لاواعية وأحاسيس مدركة. هل نلخّص وجودنا في جسم قد يستحيل غريبا لعينا شريدا بسبب المرض أو الضّجر أو الكبر أو القدر؟ أغمض عيني لأرى أن هذا الوباء تفشى في مجتمعنا كحشرات السّوس تُفسِد الجسم الصحيح فيصبح منخور الهيكل العقل. أبكى صاحبي وأنا أرى الدّرب دونه ( امرؤ القيس) وأرحل في الغد. وإنَّ غدًا لناظره لقريب.
الصورة المرافقة: Agony، Dinesh Dubey
اضف تعليق