هناك موضوع يشغلني ولا أعرف كيف أقترب منه بشكل يستوعبه ويحيط ولو بجزء من أبعاده. يشغلني اتهامنا لبعضنا بالجهل والتخلف كما يشغلني التصور إننا بشرٌ تأخّروا عن العالم نتيجة تشكيلتهم الوراثية أو الأخلاقية. في تصوري هذا التفكير خاطئ من جانبين. الأول هو إنه تصور يائس ويتكل على إيجاد تفسير لقضية بدل إيجاد حلول حقيقية. والثاني إنه عنصري في أصله لأنه يرى إن هناك من يولد وهو متأخر ومن يولد متقدما.
شعوب العالم المتقدمة لم تتقدم بدون مدارس ومناهج تعليمية مدروسة ومصممة بعناية فائقة. ولا تقدمت الشعوب بدون رعاية صحية وبنية تحتية وحرية تعبير وتعليم الأطفال على أساليب الحوار وتبادل الأفكار. نحن في دولنا نعاني من سقوط الدولة وانهيار مؤسسات التعليم والصحة والصناعة والزراعة والثقافة. ومن يتصور إن من الممكن أن نتغاضى عن كل هذا ونجد إنسانا صالحا ومتقدما دون مؤسسات، فهو إنسان يعيش بأحلام الأنبياء والمعجزات-أي أن تتغير اخلاق البشر وقدراتهم بكلمة من منقذ أو رسول أو بالطبع قائد دكتاتوري عظيم.
أنا أشعر بالاسى حين أسمع من يقول إن شعبا مثل الشعب العراقي أثبت بعد عام 2003 أنّه شعب فاسد لا يحكمه سوى من يقمعه ويؤلمني أن أسمع هذا الكلام من بشر عايشوا الكثير في حياتهم. نحن لسنا كلابا سائبة تحتاج إلى من يقودها بالعصي. نحن مخلفات الحروب. نحن الدليل على أنّ انهيار الدولة واحتكار التعليم من أجل زرع روح الحرب والثورة لن ينتج سعادة لأهل البلد. كشخص تعلّم في مدارس العراق يوم كان أكثر أمانا وتقدّما واستقرارا، تعلمت أنّ أغلاق فمي أكثر تعقلا من محاولة الفهم والتشكيك. تعلمت أنّ احترام المدرّسِ والتّعامل معه كما لو كان ضابطا في أمن الدولة، أكثر عقلانية من فهم طرق البحث العلمي الرصين التي لا تقف عند شخصية المعلمين.
نحن نعيش تراكمات القمع. وأكاد أجزم إن الهدف الأساسي من تعليمنا لم يكن إنتاج علماء ومفكرين بل هو إنتاج ثوريين وفدائيين ومصفقين لهذا القائد أو ذاك. نحن شعب حلم أطفاله بتحرير فلسطين ولم يحلموا بزراعة البساتين على ضفاف الرافدين. حلمنا أن تكون لدينا قنبلة ولم نحلم أن تكون لدينا شبكة لتصريف المجاري. تعلّمنا أن نكره المجوس دون أن نسأل عن تعاليم الدين الزرادشتي ودون أن نستوعب أنّ النّظام وهو يتكلّم عن المجوسية يقودنا إلى حرب دينية ويخلق لدينا عقدة قومية ودينية.
كلّ شيء يحدث في بلادنا اليوم هو نتيجة تراكم. ومن واجب الإنسان الواعي ألاّ ينظر إلى أخيه ويقول “هكذا خلقت أنت ولا فائدة من تعليمك أو الحوار معك”. هذا هو الإقصاء الذي تعلمناه من الدكتاتورية التي تسمي اليهودي خنزيرا وتنادينا لذبحه ونحن نعرف اأنّنا لا نأكل لحمه حتّى. لصق التهم لبعضنا لن يخرجنا أبدا من هذا المأزق، لأننا بحاجة إلى سؤال لم نسأله أبدا لأنفسنا: “ما هو حلمنا لبلادنا وللإنسان الذي يعيش فيها في المستقبل؟ هل نريد أن نكون بلدا سياحيا وزراعيا وصناعيا أم إننا نريد أن نكون مقاتلين؟” الدكتاتورية علمتنا أن نكون مقاتلين وبنت نظم التعليم لنقدّس الحرب وها نحن نقاتل.
نحن لسنا سفلة لكنّنا تلطّخنا كثيرا بالعيش في واقع سافل.
اضف تعليق