هل يمكن أن يحلّق الإنسان في السماء كالطيور بدون استعمال الطائرة والمنطاد و غيرها من وسائل الطيران؟ هل يمكن للإنسان عبر آلة بسيطة أو أجنحة جديدة أن يطير؟ إنه الحلم الذي يراود الجميع، ولا شك أن العلم قد يصل يوما إلى هذا الإختراع الذي يجعل من الإنسان قادرا على أن يطير لساعات ويصل لوجهته التي يريد. الحلم بطبيعة الحال ممكن في المستقبل ولكنه يعيدنا إلى أولى تجارب الطيران الذي يتذكرها العالم وهي تجربة عباس بن فرناس العالم المسلم.
ظهرت أول دراسة حديثة حول اكتشاف أول محاولة للطيران في أوروبا، من خلال بحث علمي كتبه أستاذ التاريخ الأمريكي “لين هوايت”، عام 1960؛ حيث أشار فيه إلى أن أول رائد للطيران في أوروبا هو “إيلمر مالمسبري” الذي كان راهبًا في دير “مالمسبري” بإنجلترا، وقد قام بمحاولته المبكرة للطيران في بدايات القرن الحادي عشر الميلادي، إذ -كما يقول هوايت- إنّ “إيلمر” صنع لنفسه أجنحة من الريش، ربطهما بذراعيه وساقيه وطار بها بنجاح لمسافة محدودة، لكنه سقط على الأرض وأصيب بكسر في ساقيه وكان ذلك حوالي عام 1010.
يقول “هوايت” في هذه المحاولة :
“إنه ليس من المحتمل أن يكون إلهام “إيلمر” قد أتاه من “سوتيونيوس” الذي يصف السقوط القاتل لممثلٍ مسرحي أخذ دور “إيكاروس” في سلسلة من مسرحيات قصيرة مثيولوجية (خرافية) يلبس فيها الممثلون أقنعة كانت قد مُثِّلت أمام “نيرون” في العصر الروماني. وليس من المحتمل كذلك أن يكون إلهام “إيلمر” في الطيران قد جاءه من الأسطورة اليونانية الخرافية حول طيران “ديدالوس” وابنه “إيكاروس”؛ حيث إن هذه الأخيرة لم تكن سوى مجرد حكاية خيالية خرافية لا صلة لها بأية وقائع علمية تاريخية. وإنما الجدير بالذكر في هذا الشأن، هو ضرورة تتبع المحاولات العلمية التجريبية الشهيرة في التاريخ الحضاري قبل “إيلمر”، والتي يمكن حصرها في أضخم وأجرأ تجربة علمية للطيران هي تجربة ابن فرناس؛ إذ لم تشبها أية شائبة من خرافة أو خيال، وإنما تتصف بالمنهجية العلمية بكل المقاييس. وبالإضافة لذلك، فإن تجربة ابن فرناس، قد صار تطبيقها وفق نظريتين علميتين وضعها العالم المسلم الشهير، مازال يؤخذ بهما إلى هذا اليوم في مجال الطيران”.
من هو عباس بن فرناس ؟
هو عباس بن فرناس بن ورداس التاكرتي الأندلسي، مهندس وفلكي وفيزيائي وكيمياوي وعالم رياضيات. عاش في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) في قرطبة، وأبدع في مجالات علمية متعددة وأنتج عدة إختراعات مازالت تلعب دورا مهما في حياتنا.
إختراعاته وموسوعية علمه :
في مجال الكتابة، صنع ابن فرناس أول قلم حبر في التاريخ، حيث صنع أسطوانة متصلة بحاوية صغيرة يتدفق عبرها الحبر إلى نهاية الأسطوانة المتصلة بحافة مدببة للكتابة. كما تعمق في دراسة الزجاج وتمكن من تطويعه لخدمة البشر، حيث صنع نسخا أولية من عدسات تصحيح البصر، والزجاج الشفاف وابتكر تقنية لتقطيع أحجار الكريستال الصلبة.
في علم الفلك، طوّر ابن فرناس أداة فلكية لرصد النجوم، مؤلفة من حلقات تمثل مواقع الأفلاك الرئيسية في الكرة السماوية، وطوّر بنفسه أول قبة سماوية كان الناس يجتمعون فيها لمشاهدة النجوم والغيوم والسحاب. ورغم أن اسم ابن فرناس ارتبط بمحاولته الجريئة للطيران فإن اختراعه للزجاج الشفاف وعدسات تصحيح البصر وقلم الحبر والساعة المائية وتطويره لطريقة رصد الأفلاك والأجرام السماوية لا تقل أهمية عن تجربته في الطيران.
تجربته في الطيران :
درس عباس بن فرناس بإمعان حركة أجنحة الطيور عند طيرانها، واستخدم مهاراته الحسابية في حساب تناسب السرعة والرياح، ثم صنع رداءً كساه بالريش حول الأكمام ليكون بمثابة الجناح وقد أعلن أنه يريد الطيران في “بلدة الرصافة ” في قرطبة. فقام بالقفز من مكان مرتفع وقد نجح في التحليق لمدة من الزمن، إلا أن إغفاله لأهمية الذيل في عملية الهبوط أدى لوقوعه وأصيب في ظهره، غير أنه تعافى بعد شهور من العلاج والراحة التامة. ورغم أنه أغفل أهمية الذيل، فإن الباحثين لم يغفلوا أيضا أنه أجرى تجربته بدون الاعتماد على أخطاء من سبقوه، كما في التجارب العلمية عادة، بل كان هو الأول، وتجربته أعطت دروسا وخبرات لمن أتى بعده.
الخلط بينه وبين الجوهري :
كثيرا ما يخلط الرواة والمحققون بين ما حدث لابن فرناس وما حدث لإسماعيل بن حماد الجوهري الذي قام بتجربة مماثلة لتجربة ابن فرناس في نيسابور سنة 393 هجري، حيث صنع جناحين من خشب وربطهما بحبل حول جسمه على هيئة شراع، وصعد سطح مسجد بلده لكنه فشل و مات شهيدا للعلم والمعرفة. وذكر قصة وفاته ياقوت الحموي، نقلا عن عليّ بن فضّال المجاشعي في كتابه «شجرة الذهب في معرفة أئمة الأدب» قال:
” كان الجوهري قد صنّف «الصحاح» لأبي منصور عبد الرحيم بن محمد البيشكي وسمعه منه إلى باب الضّاد المعجمة، ثم اعترى الجوهريّ وسوسة فانتقل إلى الجامع القديم في نيسابور، وصعد إلى سطحه، وقال: أيّها الناس إني عملتُ في الدنيا شيئا لم أُسبق إليه فسأعمل للآخرة أمرا لم أُسبق إليه، وضمّ إلى جناحيه مصراعي بابٍ وتأبطهما بحبل، وصعد مكانا عاليا من الجامع وزعم أنه يطير فوقع فمات. “
كانت محاولة عباس بن فرناس بداية الطريق لولوج عالم الفضاء حتى أنه ينسب إليه كونه أنه عالم فضاء في التاريخ وخلاصة النظرية العلمية للطيران تتمثل في أن الجسم وما يحمله لابد أن يكون خفيفًا للتغلب على الجاذبية الأرضية. فعندما يلقي بنفسه مندفعًا للأمام من شاهق، فسيحمله الهواء على متنه، وهذه النظرية يقوم بتقليدها وتطبيقها اليوم الكثير من هواة الطيران، في “الطيران الشراعي “الذي على نطاق واسع ومن فوق أماكن مرتفعة وفق نظرية ابن فرناس نفسها، مع إجراء تعديل طفيف عليها بتركيب الذيل للآلة الحديثة.
اضف تعليق