جغرافيا، المنطقة العربية صحراء تتخلّلها واحات مثل واحة وادي النيل وسواد العراق وجبال الساحل شرقا وغربا وأخرى صغيرة هنا وهناك فمن المعروف أنّ 90% من المنطقة صحراء وبوادي. تاريخيا، فإن القبلية والعشائرية الصحراوية وما ارتبط بهما من ثقافة ونمط حياة وطرائق تفكير تمتد في عمق التاريخ عشرات الاف الأعوام. وعندما جاء الإسلام منذ 1400 عام، فقد واجه تراثا قبليّا وبدويّا عميق الجذور حفر ملامح شخصيةً ليس من السّهل إطلاقا إعادة تشكيلها لأنها شخصية تجاوزت عهد طفولتها وتبلورت هيكليتها وبنيتها وملامحها القبلية وقد أصبحت في طور الشباب. أي كما الفرد الإنسان تتشكل بنية شخصيته في طور الطفولة والشباب (كما أثبتت علوم التربية وبناء الشخصية) وكذلك أيضا القبائل والشعوب وكلّ الجماعات التي يشكّلها التاريخ ولا تشكّله هي كالدول أو الأحزاب أو الجيوش.
مجتمعيا، كانت الصّحراء لا تسمح للقبيلة بالاستقرار والنمو والتطور إلى مدينة ومدنية إلاّ في أودية الأنهار والواحات. لذلك كانت في قلق دائم من الطبيعة ولم يكن أمامها إلّا الترحال من أجل المرعى و الغزو حين تنضب الطبيعة ويجتاحها الجفاف أو كانت محلا لغزو القبائل الأقوى.
هذه القبائل البدوية أمضت مئات بل آلاف السنين وجلّ همّها حل مشكلة وجودها واستمرارها في الحياة أمام عسف الصحراء وقساوتها وجدبها ولم يكن أمامها أي فرصة للاستقرار والنمو والتطور. نمط إنتاجها الرعي أو الغزو للبقاء على قيد الحياة، لا تعرف الزراعة ولا تعرف التجارة ولا تعرف الصناعة وهي مقومات الاستقرار والمدنية.
الطبيعة ضدهم ومعادية لهم في قحطها وقيظها وقهرهم على الرحيل. وأيضا الأقدار ضدهم تتحكم في المطر وظهور المرعى. والقبائل الأخرى تهددهم دائما بالغزو وسبي النساء وسلب ما لديهم من أسباب البقاء على قيد الحياة. إنهم محاصرون بالعداء والخطر والفناء ولا سبيل إّلا القوة، والقوة فقط للاستمرار والبقاء. فكانت الفروسية ومهارات القتال مصدر القوة. ومن هنا جاءت أهمية الرجل وتفوقه على المرأة في القوة والبأس وحماية القبيلة، فيما المرأة تجلب العار من سبيها حين الغزو. ومن هنا جاءت رفعة المرأة التي تنجب الذكور وليس الاناث. إنّها ثقافة القوة، ثقافة الرجولة والفحولة وثقافة السلطة للأقوى وبغير ذلك كانت تستحيل الحياة.
ومع ثقافة القوة تشكلت ثقافة التعصّب والعصبية المطلقة للقبيلة لأنّ المسألة مسألة وجود أو لا وجود فلا مجال للمنطق والحق والعدل، لأن هذه الأشياء ترف لا تقبله القبيلة ولا تطيقه. فكل ما يحمي القبيلة ويقويها ويزيد مناعتها هو الحق والمنطق والعدل ولا شيء آخر. أي أنّ القوة، قوة القبيلة وعصبيتها هي الحق والعدل. أي الأنا القبلية هي الحق المطلق. والآخر هو الباطل المطلق. وهي الخير كلّه والآخر هو الشر كله!!
إنّ ثقافة القبيلة وعقلها ليس إلاّ استجابة وتكيّفا مع تحدي الصحراء وقسوتها وقيظها وجدبها وتطرفها وشدتها، ومع تحدّي الغزو وخطر الفناء . فكانت ثقافة قاسية حادة ومتطرفة ومتعصبة، إنها ثقافة الحفاظ على الوجود البيولوجي نفسه.
الصورة: لوحة للرسام Victor-Pierre Huguet
[…] اقرأ أيضا لموفّق زريق […]