“وكان قد أصابه الملل، كما يصيب معظم الناس. فقد عزل نفسه عن واقع مليء بالتعقيدات والدراما و انسلخ بعيدا عن الحياة … ولكنّه في داخله كان مؤمنا أنّ شيئا يجب أن يحدث! عاجلا أم آجلا، شيء ما يجب أن يحدث.” ألبير كامو، رواية السّقطة/The Fall
لا أعتقد أنّ هناك شخصا على سطح الأرض لم يمرّ بهذا الشعور البغيض، الشعور المؤلم، الشعور “البيض” الذي يُسمّى الملل. فجأه و بدون أية مقدمات تشعر أن لا شيء يعجبك، لا شيء يشغلك، لا شيء يشدك أصلا للاستمرار في الحياة. نوع غريب من اللامبالاة، وكأنّ الإنسان تحّل مرة واحدة لمجرّد كتلة ماديّة تملأ حيّزا في الفراغ الكونيّ الذي يعيش فيه، لا أكثر ولا أقلّ.
إذا أردنا أن نتوجّه للعلم لنفهم ما الذي يجعل الإنسان يعيش هذه الحالة السمجة، سنجد الإجابة في الهرمونات. إنّه لأمر مؤسف أنّ شخصا “بطول وعرض” يتأثّر ببروتينات “حقيرة” تسمّى هرمونات! والهرمون “الساذج” الذي يسبب حالة الملل هو الدوبامين/dopamine. فعندما يقلّ في الجسم، يصاب الإنسان بالملل ويشعر أنّه فاقد للحماسة أيّا كان النشاط الذي يقوم به. الموضوع ليس بهذه البساطة، طبعا، هذه الفكرة العامّة عن الحالة. البعض للأسف حظّهم “أسود”، إذ يولد بنسبة دوبامين قليلة في جسمه أو أنّ المجسات/receptors التي تشعر بالدوبامين في جسمه كثيرة مما يجعلها تعطي دائما إشارة بأنّه قليل. ولأنّ هؤلاء “منحوسون” يعانون من ملل مزمن، وما أكثر أصدقاءنا “المنحوسين”!
علماء النفس فسروا حالة الملل عند البشر، بأنّه شعور مؤقت غير محبوب يدفعك لعدم التركيز في ما تفعله أو تمرّ به. كما حدّدوا مقياسا للملل يتم من خلاله معرفة ما إذا كان الشخص معرّضا أكثر من غيره للملل أم لا، وهو ما يُعرف بــ Boredom Proneness Scale. إليك الرابط، لمن يرغب في تجربة المقياس: http://www.gotoquiz.com/boredom_proness_scale
محاولات علماء النفس والأطباء النفسيين وأطبّاء المخّ والأعصاب لتفسير أسباب الملل ومحاولة الوصول لتفاصيله الدقيقة، على تعدّدها، لا تزال فاشلة في الوصول لنتائج نهائية عن الموضوع. من ناحية أخرى، الملل بالنسبة للفلاسفة والمفكّرين الذين حاولوا عبر التاريخ التعمق في النفس البشرية لفهم مشاعر الإنسان ودوافعه في الحياة نال حيّزا كبيرا من الاهتمام وهذا أمر طبيعيّ ومنطقيّ أيضا، لأنّ أغلبهم بالأساس نتاج مللهم من السائد، من المجتمع ومن الحياة عموما. إذ أنّ الملل غالبا عنصر أساسيّ في تغيير مجرى حياتهم وتفكيرهم. ومثلما يكره البعض حالة الملل ويرون أنّه يسرق الوقت والمجهود والفرح والحماس، قلّة من الناس تعتبره فرصة. فهو بالنسبة لهم كما المنبّه، بقدر ماهو سخيف ومزعج يجعلك تستفيق من نومك وتغادر دفء فراشك صباحا، بقدر ما هو دافع لتصحو وتبدأ يومك ولا يفوتك الكثير وأنت نائم. الملل هو الإشارة الحمراء التي تقول لك:” أنت في وضع مزرٍ، تفضّل لتجد لك حلّا لتغيير حالتك! أنت في وضع كئيب لا متعة فيه، وضع لا يستحقّ انتباهك!” حتّى على مستوى حياتك العامة، يقول لك الملل أنّك مثلا “في علاقة فاشلة، لا تواصل فيها”، “عملك لا يستحق ما تبذله من جهد، اتركه”. الملل يقول لك “غيّر أصدقاءك”، “شارك في نشاط جديد”، “غيّر روتين حياتك اليومية”، “كن إنسانا له هدف فب الحياة!”
المشكلة تحديدا أنّ الملل فعلا مثل المنبّه، يجعلك تستيقظ من نومك لكنّه ليس مسؤولا عن ما ستفعله بعد ذلك. الملل سيوقظك ويخبرك أن “قُم بشيء جديد، أنت تستحقّ أفضل مما أنت فيه”، وعليك أنت أن تجد “هذا الوضع الأفضل”. يمكن أن تكسر الملل بقراءة رواية وتستمتع بها، بمشاهدة فيلم، بممارسة رياضة تفيدك على المدى البعيد، بتنزيل لعبة Subway Surfers وتحصّل فيها مجموعا أكثر من صديقك “علي” وتستمتع بلحظة النصر والانكسار في عينه. فمثلما تكسر الملل بالأدب والفن والعلم، يمكن أن تذهب لملهى أو تتسكّع مغازلا الفتيات في الشارع.
إذا ما ركّزت في موضوع الملل، ستجد أنّه من ضمن أشياء أخرى يستخدمها الإنسان كشمّاعة يعلّق عليها فشله وخيبته. لكنّه في الحقيقة نعمة وميزة للإنسان الذي لا يقدّرها ولا يستغلّها لمصلحته، بتفاهته. بل وعلى العكس فهو يدفن نفسه في ضعفه ويتحسّر على عالم يتحرّك من حوله وهو قاعد عن الحياة يندب حظّه مع الملل.
“الملل هو الرغبة بأن يكون لنا رغبات نعيش من أجلها. “
هكذا يقول تولستوي في جملة رائعة يصف بها الملل. فكلّما كبرت رغبة الإنسان في الحياة، كلما أصبح للحياة طعم لتُعاش! وفي هذا الفيديو معلومات عن الملل تمّ تقديمها بطريقة مميزة: https://www.youtube.com/watch?v=Qwd25JV-jnU
اضف تعليق