متى أتوقّف عن القراءة؟
سؤال ظل يلح عليّ منذ أوّل سطر أثناء قراءتي لتلك اللُّقيمة التي تقف في سقف الحلق وتدّعي بالخطأ أنها رواية إنسانية عميقة تبحث عن فلسفة الموت من خلال بحث بطلها عن عشرة أسباب للحياة، وتهديده على صفحات التّواصل الاجتماعي بأنه سينتحر إن لم يجد تلك الأسباب العشرة مع الدقائق الأولى لبداية العام الجديد.
ظللت على مدار أكثر من مئة وخمسين صفحة في صراع مرير مع لغة ركيكة وحوار ساذج وسطحي، وأبطال لا يحملون من عمق التجربة غير قشور جعلت من ذلك الباحث عن أسباب الحياة يلتحف بغموض حصوله على أسباب تسعة. يتكتم عن البوح بها لأن القراء في رأيه انقسموا إلى ثلاثة أنواع فقط: نوع أول يبحث عن إجابات جاهزة، وثانٍ ينتقد للنقد ليُثبت أنه العالِم الأوحد ببواطن الأمور، وثالثٍ يحاول الموائمة بين النوعين السابقين.
أعرف جيدا أنني أنتمي لذلك النوع الثاني من وجهة نظر ذلك الروائي الشاب الذي كتب روايته وهو محمّل بآلية دفاع جاهزة عن ما يكتب باعتباره كاتبا جيدا، وأن المشكلة تكمن في قصور التلقى لدى بعض من يحسبون أنفسهم على فئة المثقفين، خاصة وأن رواياته تعد من أكثر الروايات انتشارا وقراءة بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
ولكن مع بعض التركيز والانتباه وبمنتهى الحيادية حول فلسفة الكتابة العميقة والموت والحياة، أعتقد أن كلّا منّا في حقيقة الأمر لا يمتلك من عمر الإنسانية غير بضع لحظات خاطفة. نأتي فندرك أن الحياة غفوة صغيرة سرعان ما نصحو منها داخل أكفان بيضاء. هنا يصبح إدراكنا لحتمية الموت هو محركنا الأساسي للنضال من أجل تلك الحياة، التي نحاول مضاعفتها بالعمل وتبادل الخبرات والخيال والحلم. نتزاوج ونتكاثر ليس فقط للحفاظ على النوع بشكل جماعي أو حتى لإرضاء شهوة جنسية، فشهوة البقاء في صور أبنائنا من أكثر الطرق شيوعا للبقاء.
وكما تتعدد طرق الموت وهو واحد، تتعدد أيضا طرق البقاء، والتجربة الإنسانية لم تجد طريقة أرقى من مقاومة الموت بالكلمة التي تحفظ بين دفتي كتاب، فتصبح تاريخا يشهد على عظمة تلك الإنسانية أو على تدنيها. نحن نقرأ لنتماسّ مع تجارب غيرنا فننمو، نتعرف على عوالم وآفاق جديدة تضيف لنا ونضيف لها من ذواتنا، فنصبغ على كل ما نتلقّاه بعضا من روحنا. فكلّ كتاب جيد نقرأه يزيد تجربتنا عمقا، وكل كتاب رديء يعلّمنا أننا تخطينا تلك المرحلة من السذاجة والسطحية، وهنا نواجه سؤالا صعبا ما هو معيار الجودة والرداءة؟
ما أراه أنا عميقا قد يراه غيري عكس ذلك والعكس. في الحقيقة أن تقسيم التلقي وقصره على أنواع محددة أمر مجحف، لأنّ كل متلقٍ منا يكوّن معيارا شخصيا وفقا لتجربته الخاصة. لذا وجب علينا عدم الاستغراب إذا وجدنا بعض الكتب الساذجة تباع وتنتشر وسط قراء جدد، كانوا ناتجا طبيعيا لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت محركا أساسيا لفتح باب جديد للتعبير عن الذات الإنسانية بتخصيص مساحة بوح خاصة لكل فرد منا. ففي تلك الفضاءات تظهر بصمات أصابع الأيدي المختلفة باختلاف كل منا، ولأن الكلمة نواة اللغة -التي تُعدّ أداة تواصلنا الأولى- حمّالة أوجه يختلف معناها باختلاف طريقة نطقنا لها، مما يجعل من كل واحد منا في نهاية الأمر متعلما ومعلّما حتى آخر نفس له في تلك الحياة. والاختلاف هو رحمة الاستمرار الذي لا يستقى بريقه إلا من ذلك الاختلاف، وكل ما نرفضه مهما بدا سطحيا وغريبا هو أمر واقع وجب علينا احترام وجوده، واحترام قدرته على جذب قارئ جديد، نحن في حاجة إليه رغم كل شيء.
اضف تعليق