أربعة عقود مضت على ظهور الهيب هوب للمرة الأولى في جنوب حي برونكس بنيويورك. بالنسبة للكثيرين كان ظهوره ليس إلا نذيراً لفساد كبير في عقول شباب ذلك العصر كأي صيحة، أو بدعة مستحدثة. فبدؤوا بإطلاق أحكام تتجاهل حقيقة أن هذا النوع من الفن بالذات هو أكبر داعٍ للسلام وصحة نفوس ذلك الجيل وأجيال أخرى لسنين طوال. لم يساعد الهيب هوب الشباب في التنفيس عن غضبهم وإظهاره بطريقة مبدعة وحسب، بل إنه نجح في جمع أشلاء مجتمع مزقته العصبيات والعنصرية والجريمة، وتغيير مسار فكر أفراده.
منذ بدئه في العام 1977 ظهرت ملامحه وتجلّى الهدف منه، حيث قام أحد مؤسسيه “أفريكا بومباتا” بإنشاء حركة للشباب سماها “أمة الزولو العالمية”، دعا من خلالها لنبذ العنف وترسيخ مبادئ الإبداع. وبذلك كان الهيب هوب منذ نشأته طرفا في حرب الفقراء والمهمشين من الأعراق الأخرى ضد الفقر وعنف العصابات والضغوط المجتمعية.
ثلاثون عاما مرت، ولم يزل النقد في أوجه لأن تمسك الشباب بفن الهيب هوب كمنفّس عن غضبهم وكفن لا يضاهيه آخر لم يزل كذلك هو الآخر. في تورونتو، كندا، أسّس الشباب “منظمة الوحدة ” حفاظاً على ميراث الهيب هوب و تكملة لخطى مؤسسيه. عبّر عن ذلك مدير المنظمة التنفيذي مايكل”بي بوي بيسيز” بروسرمان عندما صرح لهافنجتون بوست كندا بأن هدفهم هو توعية الشباب بالطريقة التي تمكنهم من تحويل غضبهم إلى فن، وأن قصة الهيب هوب في مجملها قصة كل فرد في المنظمة يبحث عن صوت، عن طريق خارج اليأس ونحو التغيير.
في العام 2007، وضع بروسرمان أسس منظمته، راسما خطى جديدة للرقص الذي ساعده على تخطي محنته الشخصية جراء مرض والدته بالسكيزوفرينيا. يقول أنه كان مضطراً أن ينضج، أن يكتم ما يحس، وأن “البريك دانس” هو ما حطم عوائق غضبه، وما ساعده في إخراجه بطريقة سليمة غير مؤذية.
رغم دعوته للمشاركة في سيرك دو سولاي وحصوله على دور في الفيلم الأمريكي “Honey”، لم يخفت ضوء طموحه. حيث أسس مدرسة يونيتي للبريك دانس أثناء دراسته بجامعة يورك. لم يمض الكثير حتى شعر بروسرمان بآلامٍ انتهت به مشخصاً بمرض مزمن في فقرات ظهره والرقبة، تاركا إياه بلا قابلية لاتخاذ الرقص كمهنة بعدها.
لكن حلم بروسرمان وطموحه لم يكونا ليموتا بموتِ عنصرٍ منهما أو حتى عشرة. فسرعان ما استبدلهما بآخرين مفادهما مساعدة النشء لتحقيق ما حققه وتعليمهم أصول الهيب هوب و الراب و الجرافيتي، بل أعمق من ذلك، لتعليمهم أصول تحويل الشعور لكلمة أو حركة أو لون.
رسالته لتلاميذ مؤسسته لم تقتصر فقط على أساليب التنفيس عن شعورهم، بل تحديد هويتهم. في عالم اندمجت فيه المؤثرات السطحية والبدائل الفقيرة مع القدرة على الاختيار، ينهض التلاميذ قادرين على إدراك ذواتهم وإرشاد أنفسهم نحو ضوء جديد يسطع بإرادتهم و لإرادتهم.
تقيم يونيتي مهرجاناً سنوياً في تورنتو بدأ هذه السنة في الثاني و العشرين من يوليو (و امتد إلى الخامس والعشرين) برقصات لمشاركين من يونيتي ونجوم عالميين للبريكدانس مثل “وو تانج “GZAو “ريتش كيد” في ميدان يونج دونداس. ورغم أن المهرجان يقام مرة واحدة في السنة، فالمنظمة الخيرية التابعة ليونيتي تعمل طوال العام تخدم ما يقارب المئة ألف تلميذ من كل العرقيات في كل كندا.
في 2013 كتب ريتش كيد: “منذ ظهر الهيب هوب وهو يحمل فوق ظهره سمعة واحدة، ألا وهي كونه مرتبطاً بالأحياء الفقيرة التي ينتشر بها العنف، تلك التي تخشى أن تمر بها علّه تتم سرقتك أو تغتال، حيث الأسلحة والمخدرات. على الأقل ذلك ما يتصور في أذهان الناس بعد كل تلك الأخبار”
“بالنسبة لي، ما تلك الأحياء إلا الأفران الدافئة التي يطهى بها خبز الموهبة بتأنٍ و براعة، أولئك الذين تغلب الحياة على طابع الموت الذي يوصم محيطهم، أولئك الذين يعبرون على فحم التجارب السيئة المشتعل نحو الجانب البارد، يكونون الأقدر على تدفئته بالنيران التي تتأجج بداخلهم، وهو ما يعجز عنه من هم سواهم.”
من خلال جميع وسائل إعادة التأهيل كالجلسات النفسية وبرامج ما بعد الدراسة، تساعد يونيتي طلاب المجتمعات الفقيرة على إيجاد طرق للتعبير عن ذواتهم وتنمية مهاراتهم ووضع أهداف مستقبلية ناهيكَ عن تنمية حس التعاطف بداخلهم.
تهدف يونيتي بذلك لخلق مجتمع صحي، مدارسه أكثر أمناً، وأفراده أغزر إنتاجاً. لتقييم عملها قامت المؤسسة بمسح لسبع وعشرين مدرسة ما يقارب الألفي تلميذ صرح 74 % منهم أنهم صاروا أدرى بوسائل أكثر للتعبير عن أنفسهم، و65% صاروا يشعرون بثقة أكبر من ذي قبل. ومن المتوقع أن يقيموا عملهم بصورة أكثر أكاديمية حيث أنهم يعملون على دراسة علمية جديدة.
وإن كان التقييم المطلق لعملهم كعمل ناجح من طراز فخم، يظهره المشاركون به، من استطاعوا بعد إنهاء مدارسهم أن يرسموا مستقبلاً مغايراً لما كان متوقعاً لهم وأن يحددوا ماهية حلمهم و يسعون نحوه بثقة.
رغم أن الهيب هوب هو بالأساس فن ظهر في المدينة، إلا أن الموسيقى تنتشر بسرعة بين الشباب في المناطق الريفية في كندا كذلك. لذلك لم تكتفِ يونيتي بالمراكز الحضرية بكندا بل امتدت لتشمل المناطق الريفية أيضا. ربما يأتي الأولاد إليها باحثين في نواياهم عن الهيب هوب، لكن الأكيد أنهم ينتهون بأكثر بكثير مما جاءوا من أجله.
“لم تطمح برامجنا لما هو أكثر من إدماج الشباب في نسيج الحياة، ينعقد الخيطُ الأول حينما ينكشف اهتمامهم بشيء ما -في حالتنا هو البريك دانس- وتتم اللوحة عندما يتمكنون من التوغل، فالنظر من مكان أقرب نحو المدرسة، الهوية، المستقبل وباقي الخيوط المنعقدة بإحكام حول نسيج الحياة القوي.”
“كل (شيء) مرتبط ب(كل) شيء، وإيجاد الشغف هو المعادل الأمثل لرؤية الهدف من الوجود.”
المصدر:
اضف تعليق