يحكى أنّ ابن ملك الغابة فقد ذاكرته حين سقط على حجر في التحدي الكبير بينه وبين نمر شاب للقفز من أعلى شلاّل في الجبال. لم يعد الأسد يتذكر والده ولا أمه ولا هو بات قادرا على الصيد والزئير كالأسود. انتظر والده شهرا كاملا وهو يتمنى أن تعود الذاكرة إلى خليفته بشكل تلقائي لكن دون فائدة. أمه جلست معه وراحت تسرد عليه قصص طفولته وكيف إنه كان يحب مطاردة الطيور والفراشات والقفز في النهر ثم السباحة في تياره الجارف والسقوط مع الشلالات لكنّ ذاكرته لم تعد إليه.
بعد مرور شهر بدأت الأسود الأخرى تشتكي إلى ملك الغابة وأخبروه إن تصرفات الأمير تهدد سمعتهم ومكانتهم بين الحيوانات الأخرى فالأمير بدأ يلعب مع شباب الحمير ويضحك على قصص الببغاوات ثم إنه بدأ يأكل الأعشاب مع الغزلان ويرفض أكل اللحوم تماما. حكيم الأسود ومستشار الملك قال له إن تصرفات الأمير أضاعت هيبة الأسود في الغابة حتى إنه سمعه يتكلم مع عصفور ويهدئ من روعه ويقول له: “أنا أيضا أخاف حين تزأر الأسود”.
في حيرته، قرر ملك الغابة أن يدعو كبار معشر الأسود مع مستشاراته ومستشاريه من حكماء الحيوانات الأخرى. بدأ الاجتماع بشكل هادئ لكنه انتقل بسرعة إلى صخب ونكات وراح الأسود يضحكون على الأمير الذي كان ينام في حضيرة الخنازير ويلعب مع فراخ البط و”ينطنط” مع القرود. صرخ بهم الملك صرخة مدوية وقال: “إن من يتجاوز على الأمير سوف يحاسب حسابا لا يرضيه ولا يفرحه!” فسكت الجميع حتى تكلم حكيم الأسود وقال: “يا ملك الغابة نحن بحاجة إلى حل لكنّنا لا نعرف ماذا نقول فنحن نفتقد إلى خبرة التعامل مع أسد لم يعد أسدا في تصرفاته، الأمير يتصرف ساعة كالقطط وساعة يتصرف كالحمير.” فعاد الأسود إلى الضحك.
هنا تقدمت البومة إلى الملك وقالت: “يا صاحب الجلالة لدي حل لمشكلتك لكنني لا أعرف إن كان سيعجبك.”
شجّعها الملك وقال:“يا أيتها البومة الحكيمة حين لا تكون هناك حلول فأنصاف الحلول رحمة، قولي ما عندك.”
قالت البومة: “أعرف طريقة تعلمتها من جدتي لنقل ذاكرة كائن الى كائن آخر وأنا أستطيع أن أنقل إلى الأمير ذاكرة أي أسد تختاره، لكن الأمير ساعتها لن يتذكر أنه ابنك ولن يتذكر أنه أمير لكنه سيتذكر أنه أسد وما عليك إلا أن تختار الأسد الذي تريد نقل ذاكرته إلى ابنك.”
احتار الأسد وطلب فترة للتشاور مع زوجته وكبار مستشاريه وحين جلس معهم توجه بالكلام الى أم الأمير وقال لها: “يا زوجتي الحبيبة أنت أم الأمير وأنت من رعاه وهو طفل ومن علمه وأدبه فماذا تريدنا أن نفعل؟”
قالت الملكة: “أيها الملك كل الإجابات غير مكتملة لأننا لا نعرف ما سيحدث إن تركنا الأمير على ما هو عليه ولا نعرف ما سيحدث إن نحن أخذنا بنصيحة البومة الحكيمة. إن بقي الأسد كما هو فسيفترسه أحد الأسود أو الضباع أو النمور وسيموت جوعا لأن العشب لا يشبعه وإن أخذ ذاكرة أسد آخر فهو سيتحول إلى كائن غريب عن العائلة ولا أعرف إن كان يحق له أن يخلفك في الحكم. لو كان لدينا ولد آخر لطلبت من البومة أن تستعير ذاكرة الأخ وحينها يكون ابننا، لكننا والحالة هذه مضطرون لأخذ ذاكرة أسد غريب أو ذاكرتك أنت يا ملك.”
زأر الملك وترك الاجتماع وراح يركض وحيدا في الغابة ولم يعد حتى صباح اليوم التالي. في الصباح، دعا إلى اجتماع جديد وقال لزوجته إنه لا يستطيع مشاركة ذاكرته مع ابنه لأن من الصعب على طفل أن يكون الابن والأب ومن الصعب على أمير أن تكون لديه ذاكرة ملك ومن ثم إن الأمير سيحب أمه كحبيبة ويفقد حبه لها كأم وسيحتار في تقبل زوجة جديدة. توقف قليلا وقال: “يا زوجتي، من حق الشاب أن يعيش بذاكرة شاب وألا يعيش بذاكرة أبيه، أنا اقترح أن نجد أسدا بعمر أبننا.”
بعد إن أنتهى الأسد من الكلام تقدم اللقلق. واللقلق كان مستشار الملك منذ شبابه وقال له: “أيها الملك أنا أعرف أسدا شابا رائعا، هو حكيم ومتمرس وله علاقة طيبة بالحيوانات لكنه حزين بشكل دائم فهو عاش يتيما منذ طفولته. قبل أن يفقد الأمير ذاكرته كان مرحا ويلعب ويتحدى الحيوانات في القفز أما الأسد الآخر فهو متفكر ويبدو كئيبا لكنه طيب وحكيم وله رأي سديد ينفع خليفة الملك.”
بعد أن تعرف الملك والملكة على الأسد الشاب وشاركوه قصتهم قال لهم الأسد: “أيها الملوك حتى أنا لا أريد ذاكرتي فلماذا تظلمون ابنكم بها؟ لكنهم بعد أن تشاورا قرروا أن تنقل البومة ذاكرة الشاب إلى الأمير وأن يعيش الأسد الآخر مع العائلة كابنهم. في تلك الليلة جلست البومة مع الأسدين الشابين ونقلت ذاكرة الأسد اليتيم إلى الأمير ثم تركتهما وعادت إلى ملك الغابة وزوجته وأخبرتهما إن العملية تمت بنجاح لكنها لا تعرف النتائج لأن هذه هي المرة الأولى التي تقوم بها بهذه العملية.
في صباح اليوم التّالي أفاق الأسدان فقال الأمير للأسد الشاب: “أتحداك أن تقفز معي من أعلى شلال في الجبال!”تفكر الأسد الشاب بالموضوع وقال:” ولماذا نعرض حياتنا للخطر؟”
قال الأمير: “الوقوف على حافة الخطر هو الشيء الوحيد الممتع في هذه الحياة. الحياة نفسها تقف على حافة الخطر. نحن نتواجد الآن ونختفي سريعا.”
قال له الأسد: “أنت عشت حياتك أميرا وتفكر بطريقة تختلف عني. أنا يتيم والأيتام لا يفكرون بالمغامرات!”
ضحك الأمير وقال: “من هو الأمير؟ أنا أيضا يتيم وعشت حياتي كلها أصارع لوحدي.”
كان الملك حاضرا مع الملكة والبومة وتعجب الجميع مما سمعوا وقرروا مراقبة الأسدين لبضعة أسابيع، لكنهم في كل يوم كانوا يكتشفون بأن الأسدين يتشاركان ذاكرة واحدة لكن لكل منهما شخصية مختلفة تماما. بعد انتهاء فترة المراقبة قالت الملكة: “أعتقد أن الذاكرة كبيرة جدا كالغابات وكل منا يرى شيئا في ذاكرته حسب شخصيته فنتذكر ذات الشيء لكنه يدفع أحدنا للضحك والآخر للبكاء.”
قالت البومة: “هذه العملية علمتني إن ما نتذكره ليس سوى جزء صغير من الذاكرة. هذان الأسدان يتشاركان الذاكرة ويختلفان تماما في تفسيرها. ربما يتشارك الجميع ذاكرة واحدة، والشيء الوحيد الشخصي هو ما نتذكره. كما إننا نتشارك في تواجدنا في مكان واحد ونختلف في الرؤية.
اضف تعليق