يلحّ السياسيون اليوم، ربّما أكثر من أي وقت مضى على وهم أزمة الهويّة، ويحملون الإعلام و الرأي العام على الأخذ بهذه الحقيقة مسلّمة، و إيهامنا أنها أزمة مفتعلة لا غير لأغراض سياسية، بل ويتمادون بالقول إن التونسي متصالح مع هويته. هكذا مع كل هذا الانقسام الحادّ بين الناس و مع كلّ مظاهر التطرّف التي تعتري البلاد، لا يجد هؤلاء أية مشكلة مع الهوية، و هم على إنكارهم منغمسون حتى النخاع في مشاكل إيديولوجية لا حصر لها. والتونسيّون أيضا على انقيادهم لهذه الأفكار-التعليمات، لا ينفكّون ينبشون عن أنفسهم بين دفاتر التاريخ التونسيّ. ولعلّ مجال التاريخ، هو الأكثر إثارة للاهتمام و الانشغال حينما يتعلّق الأمر بتلك العملية التي يندر أن يمارسها التونسيّ : القراءة. يحاول عبر الآثار البونية، والفسقية الأغلبية، والحنايا الرومانية، والأسواق الحفصية، والقصور العثمانية، أن يجد صورته المنعكسة، و اسم أبيه محفورا، و هي مهمّة شاقّة و عسيرة، فهو إما أمام كتاب بسيط لا يسمن و لا يغني من جوع للمعرفة، وإما أمام طرح أكاديميّ مختصّ لا يملك الأدوات الكافية لفكّه واستيعابه. ولكن لحسن الحظّ يوجد الدكتور الهادي التيمومي.
يقدّم هذا المؤرّخ المتخصص في تاريخ تونس الحديث و المعاصر، خطابا تاريخيّا أكاديميّا لغير المتخصّصين، وفق مناهج علمية ومدارس تاريخيّة متنوّعة، أهمّها الماركسية، حيث لا يخفي الهادي التيمومي تأثّره بالجدلية المادّية وما بني عليها من أطروحات تصوّبها و تهذّبها خصوصا في ما يتعلق بالوطن العربي، مثل أطروحة سمير أمين القائمة على نمط الإنتاج الاتاويّ. ولقد كتب الهادي التيمومي في ذلك كتبا قيّمة كثيرة، سنقدّمها تباعا في سلسلة نرجو أن تحظى بالتوفيق.
يعود بنا الكتاب إلى مسألة الهوية الجوهرية، ليس من حيث هي مشكلة أنطولوجية، تهتمّ بالكينونة التونسية في ذاتها، و إنما بوصفها مشكلة إيديولوجية تعرقل العمل الحضاريّ، و تشتّته، فالتونسيّ بحاجة لمعرفة نفسه حتّى يعرف إلى أين يتّجه، وكيف يمشي، ومن يصادق ومن يعادي، و ماهي الأدوات التي يستعملها، وماهي نقاط ضعفه و قوّته. إنها المشكلة التي تجعل التونسيّ لا يعرف ماذا يأخذ من الآخر و ماذا يبقي، ماذا يأخذ من تراثه وماذا يبقي، وهي بعبارة أخرى مشكلة الإصلاح و التحديث. في الواقع، مع السرعة التي يمضي بها قطار الدول المتقدمة، لم تزل تونس في ذات المحطة التي كانت فيها منذ القرن التاسع عشر، و لذلك ارتأى الهادي التيمومي أن يحدّثنا عن بداية التجربة التحديثية في كتابه “تونس و التحديث”.
لقد حاول الهادي التيمومي عبر هذا الكتاب الإجابة عن التساؤل الذي قد يخامرنا لكننا نتجاوزه ربما استخفافا من الإجابة : إذا كانت تونس قد عرفت في القرن التاسع عشر كل تلك الاجراءات التحديثية الرائدة، و كل أولئك المصلحين العظام، و كل تلك الأحداث المهمّة (انتفاضة 64) فلماذا لم ينجح التحديث؟ و لماذا انتهى بنا إلى الاحتلال؟
أعاد الكتاب نوعا ما رسم رموز التحديث، و أطّر بشيء من الدقة مجال كل منها في خارطة التاريخ التونسيّ. فأحمد باي، ذلك “المصلح” الكبير الذي منع الرقّ و بنى المدرسة الحربية، و كان أوّل زعيم إسلاميّ يزور بلدا أوروبيا زيارة رسمية، لم يكن ذلك الشخص الحداثيّ الذي قد ترسمه مخيّلاتنا. و كذلك الجنرال حسين و رستم، لم يكونا بتلك الثوريّة التي قد تتبادر إلى أذهاننا. فضلا عن سالم بوحاجب و محمود قابادو و محمد بيرم الخامس ومحمّد السنوسي و مواقفهم المتباينة من أحداث القرن التاسع عشر. لقد نبّه الكاتب في بداية مؤلَّفه أن “بعض ما سيرد في هذه الدراسة لن يروق لأنصار خير الدين الأيقونة”، و لكنّه لم ينبّه إلى ما سيرد بخصوص بقية الأيقونات. والحقيقة أنّ ذلك أضفى على الدراسة مصداقية يندر وجودها.
من جهة أخرى، فتح التيمومي نافذة أمام أهمية بعض المراجع المفاتيح بخصوص تلك الحقبة، و أعني بها خصوصا كتابا خير الدين باشا (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) و أحمد ابن أبي الضياف (إتحاف أهل الزمان بأخبار تونس و عهد الأمان). إذ يعتبر الأول من أهمّ المراجع التي يمكن من خلالها الاطلاع على رؤى خير الدين الإصلاحية، والخيارات التي تبنّاها حداثيّو القرن التاسع عشر. و لئن كان خير الدين ديبلوماسيا في ما يتعلّق ببؤر الفساد والعائلة الحاكمة، فإن أحمد ابن أبي الضياف الذي ترك كتابه للأجيال اللاحقة و لم يُطلع عليه حينئذ إلا دائرة ضيقة من المقرّبين، كان أكثر استفاضة و ايضاحا بخصوص وجود الفساد و منابع الخراب في الإيالة.
لكنّ الكتاب لا يقتصر في بحثه عن رموز التحديث و أفكارهم فحسب، بل يتابع كذلك ما أفرزته هذه المحاولات التحديثية، و أهمّها دستور 1861، أوّل دستور في العالم الإسلامي. كما يستعرض بعض أنشطة المجلس الأكبر (البرلمان) و بعض القوانين و الاجراءات التي كان لها تأثير كبير على المسار التاريخيّ لتونس، و الذي عجّل بها إلى أحضان الحماية الفرنسية سنة 1881. و هذا المبحث هو أهمّ ما في الكتاب تقريبا، حيث يقدّم عصارة التجربة التحديثية الأولى و إلى ما أفرزت. لقد كان اهتمام الطبقة التحديثية منحصرا في الاصلاحات السياسية، و لقد كانت تونس رائدة في هذا المجال، لكنّها (طبقة المصلحين) بحكم انتماءاتها الطبقية، لم تستوعب تماما أهمية الاصلاحات الاقتصادية، و تعاملت مع الواقع الاقتصادي بعقليّة بورجوازية أقرب للإقطاعية منها للرأسمالية. لقد كانت الطبقة السياسية و الثقافية في تونس ـ و لا تزال ـ تعاني دوما من تخلّفها عن مثيلاتها في العالم المتقدّم و هو ما يجعل من نتاج عملهم، دولة متثاقلة الخطى، متعثرة، قد تسقط مع أيّة أزمة.
أعتبر أن الهادي التيمومي و إن أحاط بخلفيات هذه الرموز الفكرية و الثقافية، فقد كان أحيانا مشطّا في قسوته على تلك الرموز، و طالبها بما ليس في طاقتها. فأحمد باي سليل البايات و نتاج التربية الملكية الموبوءة بالسلطوية والتراث العقيم (و ليس كل التراث عقيما)، لا يمكن أن نحمّل ثقافته أكثر ممّا تحتمل، و يمكن أن نعتبره ثوريّا لما توصّل إليه من قناعة بقيم الحرّيّة و العدالة، حتى و إن كان فهمه للحضارة الغربية فهما سطحيا كما يذكر المؤرخ. أما خير الدين، فهو مطالب عند المؤرخ بالاطلاع على الحضارة الألمانية و أفكارها الثورية التي كانت الرائدة في تلك الفترة، وهو الذي اطلع على الفلسفة الفرنسية و الانكليزية. إن ألمانيا في تلك الفترة لم تصبح كيانا قوميا بعد، و لم يكن من السهل على ذلك السياسي القادم من الشرق أن يلتفت إلى حضارة بلد لم يولد بعد. كما أن مشاغله السياسية ما كانت لتسمح له بالتعمق كثيرا في هذه المسائل.
لقد كان خير الدين التونسي و لا يزال أبرز مصلح عرفته البلاد التونسية، إنه ذلك الرجل الذي لا يريد قلب الأمور رأسا على عقب، و يريد انتهاج مبدإ التغيير التدريجي كلما وجد الفرصة مناسبة لذلك، و رغم فشل التجربة الأولى وابتعاده قبيل انتفاضة 64 فإنه لم يتردّد في العودة إلى الأحداث مع الكوميسيون المالي، كما أنه صرّح بعد خروجه شبه مهان من السلطة سنة 77 أنه لن يتردد في العودة للمساعدة إذا ما سنحت له الفرصة بذلك.
أخيرا من أهمّ ما يمكنني ملاحظته خلال هذه القراءة الممتعة عن تجربة التحديث في تونس، دور التعليم فيها. فالرعيل الأول من المصلحين و على رأسهم أحمد باي تلقى تعليما تقليديا بعيدا عن معارف العصر، و ما جادت به أوروبا من فلسفات ثورية. لذلك كانت قراءتهم للحداثة سطحية تتعلق أكثر بالمظاهر (الجيش النظامي هو جيش يجيد الاستعراض العسكري لا غير، الثورة الصناعية هي فبريكة تصنع شيئا ما بغض النظر عن توفر اليد العاملة الماهرة، أو العقلية المتعودة على الفكر الصناعيّ، أو الواقع الفلاحي المسيطر على البلاد) لكن هذه الرؤية السطحية، قدّمت لتونس المدرسة الحربية بباردو، و رغم أنها مدرسة ضباط لا تخرج عن سياق المظهراتية التي شغل بها أحمد باي، إلا أنها بفضل برامجها التعليمية التي أرساها مستشرقون، و بعض الحداثيين التونسيين، تمكنت من اخراج رعيل ثان من الحداثيين ذوي ثقافة مزدوجة تجمع بين الروح الشرقية التونسية، و بين روح الانفتاح على مفاتيح الحضارة الغربية، و خصوصا اللغة الفرنسية، فظهر خير الدين و الجنرال رستم و الجنرال حسين خصوصا، و هؤلاء قدموا رؤية أكثر فهما لجوهر الحداثة و أكثر تمكنا من ميكانزماتها. و قد أرسى هؤلاء قبيل رحيلهم أيضا، المدرسة الصادقية و التي مثلت نقلة جديدة في التعليم التونسيّ، حيث سمحت هذه المدرسة بخلق جيل ثالث من المصلحين الذين كانوا أكثر فعاليّة من المجاهدين المسلّحين في مقاومة الاستعمار، بل كانوا أيضا لبنة الدولة التونسية الحديثة سنة 1956.
إن التأمل في هذه الصورة التطوّرية مهمّة جدا لواقعنا اليوم، فالتاريخ يقول : يخلق الرجل مدرسة لتخلق رجلا أكثر حكمة، ليخلق مدرسة أكثر نجاعة لتخلق رجلا أكثر حكمة بدوره و هكذا تستمرّ عجلة التطوير إلى ما لا نهاية. فهل ينطبق هذا الأمر على مدرسة اليوم؟ ربما بشكل معكوس للأسف.
الكتاب عودة إلى التجربة التحديثية في بداياتها، لكنّه أيضا عودة للتأمل في المحاولة الجديدة بعد الثورة لخلق نسخة أخرى من حداثة القرن التاسع عشر. ألسنا في النهاية، نحاول إعادة إحياء التجربة بنفس الأدوات و الوسائل والأخطاء و النقائص؟
اضف تعليق